+ A
A -

مِنَ اللاشيء يُمكِنُكَ أن تَخلق أعظم شيء.. العدم طريقُكَ إلى الوجود.. النكران وحده يُعفيك من النسيان.. التواضع مَهْدُ الرفعة.. الإصرار ميثاق العقل والقلب.. الانتصار للقيم سقف لا يؤول إلى السقوط.. والمرأة، المرأة منظومة تَأبى الانقياد لغير سُلطة الفِكر الذي لا يُناوِشُه يَقين.
هِي المرأة، والمرأة عصا سحرية تُطوِّعُها الإرادةُ الحرة لِتَصنَع الروائع وتُعيد الاعتبار لتاج الثورة الضائع، الثورة على الصمت في غير زمن الانعتاق، الثورة على رحلة غياب لَيلُها لا آخِر له، الثورة على قانون الاستبداد الذي يَكفر بمبدأ الحياد.
المرأة كَون صغير في فَلَكِه يَدور كوكبُ الفكر، وهذه ماري كوري MARIE CURIE نموذج المرأة المفكِّرة المثالية الحالِمة بموسم الحصاد ما أن يَنضج حَبُّ الوقت، الوقت الأَمَّار باشتعال الرغبة في الثورة على الوقت.
عندما تُذْكَر ماري كوري تُذْكَر بالمثل فرنسا التي شهدَتْ تَأَلُّقَ عارِفَةٍ قلّ نظيرها، لكن قَبْلَ حاضنة برج إيفل تُذْكَرُ بولندا، وتحديداً وارسو مسقط رأس ماري، ماري التي انتزعَتْ أكثر من جائزة نوبل في زمن الرجال، الرجال الذين قَلَّما يَعترفون بالمرأة.
ولا غرابة أن تَكون ماري كوري الابنة البارَّة لبلدها بولندا، يَكفي، يَكفي أن أول عنصر اكتشفته ماري على امتداد دراستها للنشاط الإشعاعي قد سمَّتْهُ حاصدةُ الجوائز السابقة لزمنها «بولونيوم».
ليس من العيب أن تَنجح تحت سماء أخرى، لكن من الحكمة كما تُعلِّمُنا ماري كوري أن تُنَوِّهَ باسم البلد الذي شهد صرختَك الأولى وأنتَ تَطَأُ سطح الحياة ومَنَحَكَ ما يَكفي من هواء لِتُرَبِّيَ غريزةَ حُبّ البقاء في ظلّه إلى ما شاء لك القَدَر قبل أن تُغادِر إلى ضِفاف أخرى.
ماري كوري الشامخة في فرنسا لم تَنْسَ يوماً أنها ابنة الغيمة الحالِمة بالمطر في غير زمن الانتظار، بولندا، وما كانت ماري وأسرتها الوازنة فكرياً لِتَجْنِيَ ما جَنَتْهُ من عِنَب المجد لو لم تُنْجِبْها بولندا.
ماري كوري تُصَفِّقُ لها يَدَا الحَظّ بعد أن يُمْطِرَها القَدَرُ أوسمةَ الخلود والتحدي والاعتراف، وتأتي في مقدمة ذلك جائزة نوبل في الكيمياء إضافة إلى جائزة نوبل أخرى مناصفة مع زوجها بيير كوري PIERRE CURIE في الفيزياء.
بِساط المجد العِلمي لا يَقِفُ عند حدود الأُسْرَة، فقد سبق أن رضعَتْ ماري كوري حليبَ الفيزياء من تجربة المعلم الأول أبيها الذي غرس فيها حُبَّ المعرفة والممارسة الْمُسْتَقاة مِن قلب النظرية التي تُؤْمِنُ بها الذات الباحثة عن إجابات تُرْضِي شَهْوَةَ الفُضول العِلمي.
تاريخ ماري كوري الحافل بالإنجازات التي يَليق بالرجُل أن يَرْفَعَ لها القُبَّعَة، كلما تَعَلَّق الأمر بامرأة، يُضْمِرُ رحلةَ عذابٍ لم تُقرِّرْ ماري أن تَخوضَها، لكن قَرَّرَ القَدَر، وللقَدَر كلمة لا تُرَدُّ ولا تَسقط، يَسقط الإنسان ولا يَسقط صوتُ القَدَر.
رحلة معاناة تَعود بدايتُها إلى زمن البدايات الذي خَيَّمَ عليه الفقرُ في كنف عائلة كان يَنقصها الكثير.. الحرمان يَنزل كاللعنة، والفتاة ماري تُؤَجِّلُ الحُلْمَ تلو الآخَر لِتَبْنِيَ صَرْحَ مَجْدِها العِلمي.
حتى الزواج لم تُرَتِّبْ له ماري بالشكل الذي يُنتظَر من قريناتها، لكن يَكفي ماري فخرا واعتزازا وثقة بنفسها أنها وجدَتْ رَجُلا يُقاسمُها كل شيء، وقبل كل شيء فهو لم يَكُنْ يَنْأَى بأبحاثه وطُموحِه العلمي المشروع عن تطلعات ماري المعادِلة لانتظارات رَجُل مَسْحُور بالاختبارات والتجارب.
مختبر بيير كوري وجدَتْ فيه ماري ضَالَّتَها، فعكفَتْ على الانطلاق منه إلى عالَم الراديوم بوصفه عنصراً إشعاعياً دَأَبَتْ على البحث فيه عاقدةً العزمَ على أن تتوسل به في طريقها إلى السيطرة على زحف السرطان الذي يَعترف التاريخُ بأن لماري يداً أسست للحدّ من تفشيه.
معاناة ماري تَفَاقَمَتْ أكثر فأكثر مع شروعها في دفع ضريبة البحث العلمي الْمُذَيَّل بالتجربة.. وهنا تَشهد سيرةُ ماري كوري بأن فُرْنَ التجربة هو نفسه الرصاصة التي أودَتْ بحياتها لِتُخَلِّفَ أكثر من علامة تعجب واستفهام:
لماذا آثرت ماري كوري التنقيب والحفر بحثاً عن جذور القادم من المعرفة مستسلمة لنار الاختيار الذي امْتَصَّ دمها على أن تكتفي بأن تُكَرِّمَها الكراسي العلمية تحت قبة المؤسسات الجامعية التي يركض خَلْفها قليلو الحيلة ركضاً هُم ومَن باعوا طموحهم لشياطين الشهرة والمال؟!
كيف يعقل لامرأة أن تَسرقَ الأضواءَ وهي تُحارِب في صمتٍ تَصاعُدَ الأدخنة التي حَلَّت اللغزَ الغامض وكَشَفَتْ أسرارَ الغيب في عالم المواد الْمُشِعَّة؟!
هل يتفق العقل والمنطق على صحة أن تبقى ماري كوري في الظِّل واهمةً أن ما ستُقَدِّمُه للإنسانية يُمْلِي عليها أن تُلازم الكواليس كجندية في الخفاء لا تُغريها أضواء العرض التي تَزحف إليها الأغلبية زحفاً؟!
أسئلة كهذه وغيرها لا تَغيب عن حقيبة التأمل والمعايَنة، كيف لا والمقام مقام ماري كوري التي استسلَمَتْ لغواية البحث الذي قادَها إلى التفرغ له بعد أن أعلنَت التمردَ على القاعدة التي تُنصِف الذكورَ ولا تُنصف دائماً أنثى تَنحني لشهوة الاكتشاف الأَمَّارَة بالتضحية.
للتضحية قِصَّة تَحكيها ماري بلسان الوقت، إنه الوقت الذي سرق منها في زمن مُبَكِّر والدَتَها، فَجَرَّعَها مرارةَ الفقدان التي لا يَتَحَمَّلُها إنسان، فما بالك أن يَكون هذا الإنسان قارورةً لا تَختلف عن المرأة!
ولأنَّ شَظَفَ العيش حرم ماري كوري من الالتزام بالدراسة الجامعية في وقت مبكر، فقد فكرت في أن تعمل مُدَرِّسَة لتؤمِّنَ نفقات تعليم أختها في غياب الموارد المالية التي يُمكن للمرء أن يُعَوِّلَ عليها لاستكمال دراساته.
الشقيقة التي رَأَتْ ماري من غير الحكمة أن تَبيعَ حُلْمَ حياتها لشياطين اليأس تَرُدّ الفضلَ بدورها لأختها، وهكذا تتخرج الشقيقة وتَعمل لتبدأ ماري مسلسل الدراسات التي لا تنتهي مادام العقل دائما يتشوق إلى سبر أغوار عالم النشاط الإشعاعي.
لكنها الحياة الشقية، لا تُعطيكَ كل شيء مهما سَوَّلَ لكَ ماردُها الذي لا يَخرج من قمقمه إلا ليَشْرَبَ نَخْبَ هزيمتك.. وهكذا تَفقد ماري نْصفَها الثاني بيير كوري، قبل أن تُلْقِيَ بنفسها في أحضان أفران أَهْدَتْ ماري عُصارةَ خِبرتها، لكن متى؟! بعد أن امْتَصَّتْ لونَ الحياة في جسدها.
موت مُحَتَّم كان قد أَنْهَى رَسْمَ خريطة الطريق إلى روح ماري كوري الْمُجْهَدة إلى حدّ التهالُك وقد اعتصَرَتْها أَدْخِنَةُ الأفران التي رَتَّبَتْ لحياتها موعداً في السماء تحت ضغط الرغبة في الإخلاص لأنشطتها الإشعاعية التي تُعَجِّلُ بالرقص على حَبْلِ التضحية.
العناصر الإشعاعية التي لم تَكُنْ تُفارق ماري كوري أَنْهَتْ حفلةً صغيرة تسمى الحياة، حياة بَطَلَتُها ماري كوري التي فَكَّرَتْ في تقديم بَدائل مُرْضِية لحلّ مشاكل الآخَرين الذين اسْتَدْرَجَتْهُم المعاناةُ إلى مُسْتَنْقَع الموت البطيء، غير أن السّمَّ نفسَه الذي كانت تَطبخه ماري، في أفران التجربة باحثةً عن ترياق، ذاقَتْه ماري رغم أنفها لِتَقول لها الحياةُ: «كفى».
شمس ماري كوري غابَتْ، لكنَّ سماءَ الفتوحات العلمية أَبَتْ إلا أن تُؤَثِّثَ فضاءَها بشُموس صُغرى، نحن نتحدث عن مثيلات ابنة ماري كوري إيرين كوري IRENE CURIE التي واصلَتْ خدمة المشروع الإشعاعي رفقة زوجها FREDERIC CURIE إلى أن يَحصلا بدورهما على جائزة نوبل.
كأن التاريخَ يُعيد نفسَه ليُعيدَ توزيعَ الأدوار نفسها تلك التي لم يَخُنْ فيها الثنائي الثاني في مؤسسة الزواج واجبَهما العلمي، وبذلك نَجَحَتْ إيرين وفريدريك في استكمال أبحاث ماري وبيير.
التطلعات العلمية تَعقد قِرانَها على أضواء التجربة، والطموحُ يَلِدُ الطموح، والعقلُ الذي يَعِدُ المرأةَ بالعبقرية انتصاراً لإرادتها غير المستعصية هو نفسُه الريشة التي تَرسم خطوطَ الفجر القادم بعيداً عن دعوات طُلاَّب الإبادة لِمَن أحسنَت القيادة.

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
31/03/2018
3266