+ A
A -
ذكرت في المقالات السابقة، عقبتين من المعوقات البارزة في طريق تجديد الخطاب الديني، بتمثلاته المختلفة: الخطاب الدعوي المنبري السائد، بوجوهه الصحوي والسلفي والجهادي، والخطاب الذي تجسده الفتاوى الدينية، سواء الرسمية المعتمدة منها، أو فتاوى الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي التي يطلقها دعاة الإعلام الجديد، والخطاب الديني المتمثل في الدراسات والبحوث والمؤلفات الإسلامية، التراثية منها والحديثة.
تحدثت فيما مضى عن عقبتين، هما: الممانعة المجتمعية، والتراث الحاكم، وأضيف هنا:
ثالثاً: عقبة الإصلاح العام: والمقصود بها، لدى من يرونها عقبة، أنه لا يمكن تجديد الخطاب الديني، إلا بإصلاح الخطاب العام: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والتربوي والثقافي والإعلامي والتشريعي، شرطاً مسبقاً، أي ضمن رؤية إصلاحية مجتمعية شاملة، كون الخطاب الديني، جزءاً من منظومة ثقافية اجتماعية عامة، فلا يمكن تجديد الجزء إلا في إطار التجديد العام والشامل.
فعلى سبيل المثال، يذهب فريق من الكتاب المعنيين بتجديد الخطاب الديني، إلى أن تفكيك خطاب التطرف، يسبق تجديده، إذ لا يكفي تجديد الخطاب الديني لمواجهة العنف المتمسح بالدِّين، قبل تفكيك خطاب التطرف وتجريده من أسانيده الدينية المزعومة، وجملة من الإجراءات والمبادرات تشارك فيها الجهات المسؤولة عن التعليم والدعوة والشباب في الدولة، لسحب البساط الديني من التيارات الإرهابية، وتعزيز ثقافة السلم في المجتمع، على أن يصاحب ذلك آليات للتعاطي الإيجابي مع احتياجات الشباب، وتوفير سبل مبتكرة لاستيعابه، وحزمة من المعالجات، يطرحها نخبة من علماء الدين والخبراء، فضلا عن الرد على المقولات الأساسية للتطرف العنيف، إضافة إلى ضرورة أن يرافق كل ذلك، ويتبعه، تقنين وتحديد المعايير والكفاءات التي يجب توافرها في القائمين على ممارسة أي مهنة تتعلق بالخطاب الديني، سواء في التعليم، أو في مجال الفتوى، أو الوعظ والإرشاد، ومن المهم كذلك، في التعليم الديني، ربط مخرجاته بتوقعات الدولة والمجتمع من خريجيه، بحيث يكونوا عاملين مساهمين في بناء المجتمع وتطويره، لا عاملين إعاقة أو تخريب، ومن هنا يذهب هؤلاء إلى أن تجديد الخطاب الديني، عملية صعبة ومعقدة، ومن غير الممكن إنجازها بمعزل عن الإصلاح الشامل في كافة ميادين الحياة التعليمية والاجتماعية والثقافية..الخ
وهناك فريق من الباحثين، يرون أنه لا يمكن تجديد الخطاب الديني، بمعزل عن تجديد الفكر الإسلامي العام، المأزوم والمحاصر بثالوث ( سلفية تكفيرية، صحوية سياسية، تراثية ماضوية)، كما لا يمكن تجديد الفكر الإسلامي المأزوم، بمعزل عن تجديد الفكر العربي، عامة، لأن أزمة الفكر الإسلامي، جزء من أزمة الفكر العربي، والتي في النهاية، انعكاس لإخفاق المجتمع العربي والإسلامي، في الميادين السبعة: التعليم والتنشئة والتثقيف والإعلام والدعوة والتشريع والاقتصاد، ومن هنا، يقترحون: تشكيل مجلس وطني يضم كافة المفكرين والخبراء باختلاف مشاربهم وتوجهاتهم لوضع تصور جديد وشامل للمنظومة التعليمية والتربوية والتثقيفية والإعلامية والتشريعية والدعوية والاقتصادية…الخ، كون المؤسسات الدينية الرسمية العريقة، وحدها، عاجزة عن القيام بعمليات المراجعة والتقويم والفرز وتنقية التراث الديني مما علق به من الشوائب التي أفرغته من قيم التسامح والاعتدال والمحبة، تمهيداً لتجديد الخطاب الديني العام.
خاتمة: رؤية تقييمية
مع اتفاقي مع هؤلاء الذي يرون أنه لا يمكن تجديد الخطاب الديني، بمعزل عن الإصلاح العام السياسي والاجتماعي والثقافي والتعليمي والإعلامي…الخ، وكذلك اتفاقي معهم، في أن مهمة التجديد، مسؤولية مجتمعية، تتضافر فيها جهود جميع المؤسسات والهيئات التربوية والدينية والاجتماعية والإعلامية… الخ، ولا تنفرد بها المؤسسات الدينية الرسمية، وحدها، وإن كنت أرى قيادتها لكافة تلك الجهود، كونها المسؤولة أساساً عن مهمات دينية أربعة، طبقاً لرضوان السيد: المحافظة على وحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام، إلا أني لا أرى، الإصلاح العام، شرطاً مسبقاً للإصلاح الديني المنشود، ولا مسوغاً لتأجيل تجديد الخطاب الديني، وإلا فإنه سيطول انتظارنا، ولن تتحقق مطالب دعاة التجديد والإصلاح، فليكن إصلاح المدخل الديني، هو المدخل الضروري لإصلاح الأوضاع العامة، والعامل الرئيسي في تجديد الحياة السياسية والاجتماعية للعالم العربي، طبقاً لإعلان باريس 2003.

بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
09/04/2018
3257