+ A
A -
تحدثنا في المقال السابق عن المعوق الثقافي لتجديد الخطاب، ونبين هنا كيف يوظف السياسي، الثقافي ليشكلا أبرز العقبات في النهوض بالخطاب الديني. . ذكرنا أن الثقافة المجتمعية تهيمن على عقول الأفراد ومشاعرهم، فهي أشبه بقوالب للتفكير والوجدان، وإذا علمنا أن الاستبداد التاريخي الراسخ في التربة المجتمعية، وكذلك التأزم السياسي المتطاول قروناً متلاحقة، ما هما إلا قطاع واحد متأزم من الكل الثقافي المتأزم وإن كان قطاعا فاعلاً ومؤثراً، ومع أن الثقافة العربية هي الأسبق وجوداً من أنظمتها السياسية إلا أن الأنظمة العربية نجحت في استثمارها لترويض شعوبها، وتطويع مجتمعاتها.
كما استطاعت توظيف القيادات الثقافية والدينية لاستدامة السلطة، واحتكار الثروة والنفوذ، وتحقيق هدفين: إسباغ الصفة الشرعية على السلطة، والتحكم في الثقافة المجتمعية وتوجيهها لتشكيل توجهات الجماهير السياسية، ومن هنا قيل: الناس على دين ملوكهم، وهذا هو مكمن الخلل الرئيس في ثقافة المجتمعات العربية، الثقافة أسيرة السلطة السياسية، ولا فكاك إلا بتحريرها، فإذا تحقق ذلك، ولا أراه قريباً، صارت قادرة على التفاعل مع معطيات العصر، والانفتاح على الثقافات الإنسانية المعاصرة، لأن الثقافة عقل الأمة، فإذا أشرق هذا العقل، وتحرر من قيود السلطة، أشرقت الحياة، وازدهر المجتمع، وارتقت الأوضاع المجتمعية، وانفتح الباب لخطاب ديني جديد.
ومن هنا، نستطيع القول: ان تحرير الخطاب الثقافي من السياسي وإصلاحه، إصلاح لكل القطاعات الأخرى: الفكرية، والأخلاقية، والعلمية والتعليمية، والإدارية، والسياسية، والاقتصادية، وقد ذكرت في المقال السابق، العديد من آفات الثقافة العربية المعوقة لتجديد الخطاب الديني، ويبقى أن نذكر أن أبرز هذه الآفات، آفة تقديس السلطة، والصراع الدموي عليها، وفِي هذا الموضوع، فإن أفضل من شخص هذه الآفة، هو المفكر السعودي إبراهيم البليهي، الذي رأى أن السلطة في الحياة السياسية العربية، وفِي ثقافة العرب، قديماً وحديثا ً، هي القيمة المحورية التي تتفرع عنها بقية القيم، وآفة حب السلطة، والاقتتال المرير من أجلها، لازمت العرب أينما حلوا وارتحلوا، فقد حكموا الأندلس 8 قرون، ولكن بسبب التنازع على السلطة ضاعت منهم إلى الأبد. وطيلة التاريخ العربي كانت التغيرات السياسية تأتي نزاعات على السلطة، عبر
سلسلة من التقلبات من أجل إزاحة زعيم وإحلال آخر، أو محق أسرة حاكمة وإحلال أخرى، وفق ثلاثية الجابري: الدين، القبيلة، الغنيمة، بل وحتى الانقلابات العسكرية العربية، على امتداد 7عقود الماضية، وكذلك ما سمي بثورات الربيع، كلها كانت نزاعاً على السلطة، وليست حركات للتغيير نحو الأفضل، بل كان اللاحق منها أسوأ من السابق.
السلطة، هي القيمة المركزية في ثقافتنا العربية، وما هذه التنظيمات التي تتقاتل تحت رايات الجهاد المزعومة، وتحارب أنظمتها على السلطة، وتقتل الحرث والنسل، إلا تجسيدات مرعبة لهذه الآفة، وقد تأسست الثقافة العربية، منذ الجاهلية عليها، بسبب الصراع وإرادة استئصال الآخر المنافس، لأن البيئة الصحراوية جعلت الحياة لدى العربي لا تتسع إلا لفئة واحدة، فخلقت فيه هذا التمحور حول الذات.
لم يكن العربي يعتز بانتمائه للعرب وإنما للقبيلة، ولم يعرف معنى الأمة إلا بالإسلام الذي أخرجه من جدب الصحراء إلى الخصب والنماء، لكنه ظل مأخوذاً بمنطق القوة والصراع والتغلب، وأعطت الثقافة السياسية مشروعية دائمة لهذا المنطق، وجعلته سببا كافياً للمشروعية السياسية، والطاعة لمن غلب واستبد، حتى قال شاعر العربية الأكبر:
والظلم من شيم النفوس فإن…..تجد ذا عفة فلعله لا يظلم... وفِي المأثور: إنما العاجز من لا يستبد.. العربي شديد الانتقام من أخيه، عندما انتصر العباسيون فرشوا البسط على القتلى وأكلوا، وحين انتصر المأمون سلخ جلد أخيه، وطبقاً للمفكر البليهي، فإن التاريخ العربي يمر بأحداث جسيمة: قطع رأس الحسين، والطواف به في الأمصار، وضرب الكعبة بالمنجنيق، وصلب ابن الزبير، واستباحة المدينة، يمر بهذه الفظائع كأحداث عادية وعابرة!
ختاماً: تقديس السلطة، والتعلق بالمتسلطين المستبدين وتمجيد ذكراهم، آفات أعطبت العقلية الجمعية، وأفسدت الأخلاق، وحجبت الكثير من بهاء الإسلام، وأورثت الشخصية العربية خللاً عميقاً سوغ الفصل بين الأقوال والأفعال، لتصبح الأمة العربية أمة رفع الشعارات المحبطة.
بقلم : د.عبدالحميد الأنصاري
copy short url   نسخ
23/04/2018
3216