+ A
A -
همس حالِم حيناً وغائم حيناً آخَر يَأخذنا في رحلة على نهر النيكار الذي يَتأبط «لاوفن» مسقطَ رأس الشاعر الألماني يوهان هولدرلين، هولدرلين الذي دَعانا لِنَرنو مِن عين إبرة التأمل إلى محيط أتعبَ شاعرَنا موجُ انتظاره لذاك الآتي الذي لا يَأتي.
ذاك الآتي لا يأتي دون ألاَّ يُغرِيَ بالرحيل حقيبةَ صبر الشاعر العائمة في نبيذ مِن اليأس الذي اعتصرَتْ حباتِ عنبِه كَفُّ التجربة الْمُرَّة بما أحكمَت القبضَ عليه مِن ألم تَحكيه الدموع الهاربة مِن موعدها وأمَل تتفتَّح في ظلِّه ورود الشعر التي تُقاوِم الذبول رغم حلول فصل الخريف الْمُبَكِّر الذي أَتْلَفَ حصادَ حقل الأيام.
«ديوتيما» مَجْدٌ تَغَنَّى به يوهان هولدرلين مقاوِماً غريزةَ حُبّ البقاء إلاَّ تحت سماء سوزيت، وما سوزيت سوى المرأة الرمز الذي عصف رحيله بتسوية أوراق العقل الذي كان يُصَفِّق لأطروحة القلب:
«تسكتين وتصبرين، وهم لا يفهمونك،
يا أيتها الحياة الغالية! تذبلين في صمت
لأنك واحسرتاه، تبحثين عبثاً بين البرابرة
عن أهلك في نور الشمس،
عن تلك الأرواح النبيلة الحنون، التي ما عاد لها وجود!
غير أن الزمن يسرع الخطى، ولازالت أغنيتي الفانية
ترى اليوم الذي تشبهك فيه، يا ديوتيما، وتسميك
بعد الآلهة ومع الأبطال» [د. عبد الغفار مكاوي، هولدرلين، نص: ديوتيما].
مَن يفسد على يوهان هولدرلين حُلْمَ مُنتصَف رحلة عُمْر بعطر سوزيت التي انطفَأَتْ شمسُها قبل أوان انبعاث الحياة في دورة دَمِ مشاعر الشاعر؟!
المرأة الرمز سوزيت تُؤَجِّجُ اختناقَ الذات تلك التي لا تَنْقاد إلا لها. الذاتُ، ذات هولدرلين، نالَتْ منها التمزقاتُ في ظِلّ غياب النِّصف الآخَر الذي قد يَردّ الاعتبارَ لصرح الأُمّ الْمَنْسِية أو الْمُغَيَّبة، غير أن هذا النصف الآخَر لا يَختلف اثنان في أن رحيلَه لا يَقِلُّ عن بقائه تَدميرا لِيوهان.
بعيداً عن العقل لا تتحقق جنةُ يوهان على الأرض، وبعيداً عن سوزيت لا تتحقق جنةُ يوهان في سماء الروح، تلك الروح التي كانت مَزْهُوَّة وهي تتجاوَب مع نبض القلب الجَيَّاش تماهياً مع رقصة الروح التي تُقَبِّلُ الأرضَ التي تَخْطُو فوقها سوزيت خطوات أنثى تُعيد رَسْمَ خريطة الحياة في عينَي رَجُل جَلدَه الحرمان.
مَن يصدق أن يوهان يستسلم للطوفان، طوفان المشاعر الذي يَبْتَلِعُ مركبَ قلب هذا الثائر بشِعره وفي شِعره ثورة النبلاء الذي فقدوا مظلاتهم الشمسية في معركة الزمن؟!
الحياة سفينة على ظهرها يَحبو يوهان الطفل العاشِق، ويوهان الرجُل الهائم على وجهه في عاصمة الحُبّ لا يَشيخ، لا يَشيخ ولا يَكبر على طلب الحُبّ مِن المرأة التي تُجسِّدُ الأُمَّ قبل أن تُحاكي الأنثى.
سفينة الحياة لم يَكُنْ يَتصور يوهان أنها ستُسعِفه للنجاة من وقاحة بحر الجنون ذاك الذي أُلْقِيَ به فيه مُغْمَض العينين، لكن إحساسَه مَرَّنَه على أن يَكتبَ بأصابع القلب المعَذَّب ما لا يَقوى عليه عقل حُرٌّ طليق.
الإحباط في تغيير الواقع السياسي المعادِي لِمَرامي الأقلية غير الساكتة عن حقها في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامتها المهدورة، والصدمة في الواقع على مستوى تَقَلُّص فُرَصِ العمل التي لا تدرُّ ما يَكفي لشراء عكاز يُسْنِدُ الحُلمَ الكسيح ويَحفظ ماءَ وجه البراءة التي عاث صُنَّاعُ الوحشية فساداً في شوارعها غير المعبَّدة، والجلطة العاطفية التي جَمَّدَتْ دماءَ الدورة القلبية في جَسَد تَصرخُ حُجُراتُه صرخةَ السجين الْمُبْعَد عن دنيا الحُبّ قسراً بفعل رحيل البطلة، كل هذه وسِواها عوامل رَفَعَتْ في وجه هولدرلين لافتةَ «قِفْ» ليَتأهَّبَ لِسَفر آخَر في دهاليز المصحات العقلية التي رَتَّبَتْ لقلبه موعداً في الجحيم بعد احتراق الورقة الأخيرة سوزيت.
مَن كان سَيُصَدِّقُ أن الدروسَ الخصوصية التي فَتَحَ بها هولدرلين باباً للنجاة من قسوة الحياة ووطأة الحرمان ستَجْعَلُ الحياة تُعَلِّمُه دروساً قاسية يَصعب معها الانفلات مِن قبضتها التي تُصيب القلبَ في مقتل قبل أن يُبايِعَ القلبُ العقلَ لِيَجْرِفَهُ إلى حافة الجنون؟!
مغامراتُ الحُبّ لا سقف يَحْجُبُ الآخرين عن رؤيتها، لذلك سرعان ما تُفْتَضَحُ حقيقةُ العلاقة التي تُوقِع هولدرلين في الخطيئة مع زوجة سَبَقَ أن انحنى زوجُها لدخول هولدرلين، لكن هولدرلين لا يرى من الحكمة أن يخرج من ذلك البيت إلا ذليلا مُهانا مطرودا منه شَرّ طردة.
جنة هولدرلين لا تَعِدُ بإقامة، وأكثر من هذا يُرْهِقُه فراقُها، فَنَراه يَتَخَبَّطُ في تصوير ذلك تَخَبُّطَه في حياةٍ جَنَتْ عليه وحَكَمَتْ بانتهاء صلاحيته قبل أن تَطير سلامتُه العقلية.
عالَم الشعراء الهارب منه هولدرلين إلينا عالَم شفيف، يَحْمِلُ من رقيق الكلمات ما يَطيب لنا أن نُطِلَّ مِن شُرُفَاتِه معايِنين الْمَشهَدَ الشعري:
«الشعراء أوعية مقدسة
تُحفظ فيها خمر الحياة،
وروح الأبطال» [د. عبد الغفار مكاوي، هولدرلين، نص: بونابرت].
الشعراء حروفهم نَبيذٌ بقدر ما تُخَدِّرُ فهي تُرَوِّضُ الذاكرةَ على الإحساس:
«لا تخافوا الشاعر عندما يغضب غضبه النبيل،
إن حرفه يقتل، ولكن روحه تحيي الأرواح» [د. عبد الغفار مكاوي، هولدرلين، نص: الشاعر الغاضب].
حذاء الحُبّ أكبر من أن تَنْتَعِلَه قَدَما الشاعر، لذلك أضاعَه وما عَبَرَ به جُسورَ الوصل:
«تطلعت روحي إلى السماء، غير أن الحُبَّ
جذبها إلى الأرض جذباً جميلاً،
والعذاب قهرها بقوة،
هكذا أعبر قوس الحياة
وأعود إلى حيث جئت» [د. عبد الغفار مكاوي، هولدرلين، نص: دورة الحياة].
الحب سَفَر تتكون فيه الروح، سَفَر مبارَك، تُبارِكُه الأيادي المقدَّسة مع كل قرَع لطبول الأنفاس ومع كل صعود للروح الآيلة للسقوط في بحر حورياته رَبَّاتِ العاطفة:
«ينمو الحب فريداً في قناعته،
فريداً في نبله وتقواه
فوق الأرض الصلدة الموحشة،
الحُبّ ابن الرب الذي خرج منه وحده،
بوركت، بوركت أيتها النبتة السماوية» [د. عبد الغفار مكاوي، هولدرلين، نص: الحُبّ].

بقلم : د. سعاد درير
copy short url   نسخ
05/05/2018
3373