+ A
A -
لقد توقفت قضية الرؤى التي أثارت جدلا واسعا عند الراوي على وجه الخصوص، وطبيعة العلاقات المتشابكة والمتداخلة بينه وبين الرؤية.
والراوي هو الشخص الذي يروي القصة وهو الذي يأخذ على عاتقه سرد الحوادث ووصف الأماكن، وتقديم الشخصيات، ونقل كلامها، والتعبير عن أفكارها ومشاعرها وأحاسيسها.
في حين تُعنى الرؤية بـالطريقة التي اعتبر بها الراوي الأحداث عند تقديمها فتتجسد من خلال منظور الراوي لمادة القصة، فهي تخضع لإرادته ولموقفه الفكري، وهو يحدد بواسطتها؛ أي بميزاتها الخاصة التي تحدد طبيعة الراوي الذي يقف خلفها.
وعليه، فعلاقة الراوي بالمؤلف تتذبذب قربا وبعدا، وصورة القارئ، الباحث عن دور الراوي- هنا- لا تنطبق على شخص معين، بل تأخذ نفس العلاقة المرنة المذبذبة، وكلتا الصورتين تتوقف على الأخرى، فكلما أخذت صورة الراوي تتضح بدقة أخذت صورة القارئ تكتب معالمها كذلك، وهاتان الصورتان لازمتان لأي عمل إبداعي، ووعينا بأننا نقرأ قصة، يدفعنا لأن نلعب هذا الدور للقارئ المتخيل، ويدفع الراوي لأن يبدو لنا كمن يحكي هذه القصة المتخيلة أيضا، فلا بد للأنا والأنت من أن يظهر معا، في علاقات متنوعة.
وعلاقة الراوي والمؤلف: باعتبار أن القصة كلام تصدر عن واهب، طرح التساؤل من هو واهب القصة؟ وقد قدمتُ لهذا السؤال- إلى حد الآن- ثلاثة احتمالات:
أولها: أنه شخص (بالمعنى النفساني) ذو اسم، هو الكاتب- فما القصة- بهذا المعنى، إلا تعبير عن «أنا» خارج منها، يقول صلاح فضل: إن خالق القصة هو المؤلف، هو هذا الشخص بالذات المسمى بكذا، والذي يمسك بالقلم ويكتب قصة كذا، ومن هنا يجيء الخلط بين شخص المؤلف وفنه الذي لا يعتبر في هذه الحالة سوى تعبير عن «الأنا» أو عن الذات الخارجة على القصة والمستقلة عنه.
وقد حاول صلاح فضل من خلال هذه المقولة أن يفسر الاحتمال الأول مع عرض هذا الاختلاط بين شخص المؤلف وراويه، وهي قضية تنبه إليها النقد الأدبي الحديث، واعتبرها مغالطة، وقع فيها النقد وخاصة مجال السرديات، عندما طابقت بين (المؤلف) والشخصية القصصية- هذه الشخصية العامة التي هي نتاج عمل تأليفي تخييلي، إنها كائنات من ورق- تتجسد لتتخذ شكلا دالا من خلال اللغة، وهي ليست أكثر من قضية لسانية، بكل قوانينها وأنظمتها وقواعدها، إذ اعتبرت لسان حال المؤلف أو الشخصية البديلة عنه، وقد تجلى هذا أكثر ما يكون في القصص المروية بضمير المتكلم وهذا ما وجدناه في قصص وروايات الاعتراف، والسيرة الذاتية. وهذا الخلط- عند البعض- أعاق فهم الشخصية، التي هي ليست المؤلف، وإن عكست جانبا من جوانبه، لأنها محض خيال يبدعه المؤلف لغاية فنية، فما الشخصية وعلى رأسهم الراوي إلا قضية لسانية يجردها الكاتب من بعدها الدلالي، ليسد إليها وظيفة، تجعلها فاعلا في العبارة السردية
يقول رولان بارث (R.BARTHE): «إن الذي يتحدث (في القصة) غير الذي يكتب (في الحياة)، والذي يكتب غير الذي يعيش»، أي لا مجال للخلط بين الراوي والكاتب، أو بين شخص الكاتب وشخص، وإن سبرت بعض أغوار نفسيته في وقت معين أو عكست جانبا من جوانبه الحياتية.
ثاني الاحتمالات: إن الراوي ضمير عام غير ذاتي، يشاهد الحكاية من عل، ويحاول إيصالها للمروي له، إنه يعرف كل شيء، لذلك يتخذ زوايا متعددة في الرؤيا الرؤية مع الراوي = الشخصية الرؤية المجاوزة أو من فوق (الراوي <الشخصية)، والرؤية خارج (الراوي > الشخصية، في معرفة الأحداث) فهو في آن واحد داخل في شخصيته، يعرف أخص خصائصها وخارج عنها لأنه لا يتطابق مع أية شخصية.
وثالثها: إن الراوي مجبر على أن يقصر قصته على ما تراه الشخصيات أو تعلمه فكأن كل شخصية تضطلع دوريا بالرواية أو القصة: إنه شاهد يروي ولا يتدخل، له وجود لغوي في القصة، ولغة الراوي- في هذه الحالة- تشكل إحدى دعائم العملية السردية.
وتعرض هذه التفصيلات على طريقتين: فهناك ما يقوله السارد أو الراوي، وينقله من أحداث ومعلومات، وما تخبر به الشخصيات ذاتها.
من هنا جاء تقسيـم البويطيقـي «تودوروف» لأنمـاط السرد إلى الحكي والتمثيـل أو العرض، ويضرب لذلك مثالين بالقصة التاريخية التي تعتمد على المؤلف فقط في نقل وقائعها، والدراما التي تعبر فيها الشخصيات مباشرة عن نفسها، وما يجول بخاطرها دون وساطة المؤلف.
وإذا أرجعنا البصر إلى الوراء، نجد أن أفلاطون أول من ميز بين صيغتين سرديتين، أسمى الأولى حكاية خالصة (DIEGESIS) وفيها يظهر الشاعر نفسه هو المتكلم، دون أن يشعرنا بوجود شخص آخر يقاسمه الكلام، على خلاف المحاكاة (MIMESIS) التي يجهد فيها الشاعر نفسه؛ ليوهمنا بأن ليس هو المتكلم بل شخصية ما.
فإذا حاولنا إسقاط ما قلناه سابقا على الخطاب السردي، تظهر طريقتا العرض والحكي كتشكيل إبداعي، يحاول الراوي المزاوجة بينهما، فقد يتخفى أحيانا وراء شخصياته حتى لا يكاد يظهر، حين يدع المجال لها مباشرة.. من هنا كانت الصفة الرئيسية في السرد القصصي انفتاحه، فهو يرصع المشاهد بالحوار، الذي يمكن أن يمثل وقد يعمد إلى السيطرة على الأحداث ككل.
يتضح لنا من خلال ما سبق، أن المقصود بالصيغة عامة طريقة محددة، يعمد من خلالها الراوي إلى بناء عالم قصِّه وتقديمه للقارئ في شكل خاص، يستعين فيه بسبل شتى. ومن هذا المنطق جاء تنوع الصيغ السردية الذي سنعمد إلى تحديده في العنصر الموالي،انطلاقا مما ينقله السارد من أحداث ووقائع، وما تقوله الشخصيات بوساطة السارد أو دونه؛ أي بين الحكي والتمثيل أو العرض، ميز «جينيت» فيما أسماه بالمسافة بين حكاية الأحداث وحكاية الأقوال.
copy short url   نسخ
29/06/2016
2798