+ A
A -
ما أثمنُ نصيحة يمكن أن يُهمسُ بها الآن في أذن المثقف العربي؟ ربما النصيحة الأثمن هي تلك التي أدلى بها سقراط شيخ الفلاسفة اليونانيين:
«ما من إنسان على وجه الأرض يمنع بوعي أخطاءً وأعمالاً غير شرعية عظيمة كثيرة الحدوث في الدولة التي ينتمي إليها، يمكنه النجاة بحياته.. بطل العدالة الحقيقي، إن انتوى أن يبقى حيَّاً لزمن أطول، عليه بالضرورة أن يُقيد نفسه بحياته الخاصة ويدع السياسة وشأنها».
وهذه هي الخلاصة التي توصل إليها سقراط عن العلاقة بين المثقف والسياسي.. وكلنا نعلم أن سقراط قد أُعدم بمكيدة سياسية دبرها له خصومه تحت ذريعة إفساده للشبان الأثينيين والتشكيك في الآلهة.
ورغم مرور آلاف السنين على تلك النصيحة القيّمة، فإن المثقف العربي أحوج ما يكون إليها في وقتنا الحاضر، وربما لسنوات قادمة في المستقبل لا يعلم مقدارها إلا الله، فوضعنا السياسي العربي يتستر خلف رداء ديمقراطي براق من الخارج، ولكنه في الداخل يُمارسُ أشد أنواع التنكيل بالرأي الآخر، وأيُّ صوت نقدي يغرد خارج السرب يتم قمعه وتخويفه وربما إسكاته للأبد.
لعلنا نتذكر الروائي العراقي العبقري حسن مطلك مؤلف رواية «دابادا» الذي أعدمه نظام صدام حسين وهو في ريعان شبابه، فخسر العراق والعالم موهبة أدبية أصيلة، كان يمكن أن تقدم المزيد من الروائع الأدبية لو قيض لها أن تحيى وتتابع مشروعها الإبداعي.
وفي اليمن تعرض أعظم روائي أنجبته اليمن في القرن الماضي وهو محمد عبدالولي للاعتقال في الشمال، وحين لجأ إلى الجنوب لقي مصرعه في حادث انفجار طائرة، من تدبير جهاز المخابرات الذي جمع قيادات من السياسيين والمثقفين غير المرغوب فيهم في رحلة خاصة، ومن ثم تصفيتهم بتلك الطريقة الغادرة.
ومما لا ريب فيه أن الإرهاب السياسي المنظم الذي مارسته السلطات العربية قد جنا على عدد غير معروف من المواهب الأدبية والفكرية وهي في مقتبل عمرها، فاختفتْ ودُفنتْ قبل أن يتاح لها الوقت لتزهر وتُعطي ثمارها الإبداعية.
من يستطيع تخمين عدد المبدعين الواعدين الذين خسرناهم وهم في بداية الطريق بسبب عنف وبطش السلطات العربية؟؟ لا شك أن التفكُّر في هذا الأمر يسحب تنهيدة مؤلمة من الصدر.
يطرح سقراط معادلة للمثقف العضوي الذي يعيش تحت ظل أنظمة سياسية ديكتاتورية، ومن المحزن أنه ليس أمام المثقف العربي من خيار سوى أن يعمل بها، إذا أراد بالطبع أن يبقى رأسه فوق كتفيه.
كان سقراط يدرك أن مشروعه الفكري التنويري سوف يجلب عليه أصنافاً من الأعداء الظاهرين الناقمين والأعداء المخفيين المتربصين، ولذا ربما أجَّلَ لحظة الصدام الكبرى إلى مرحلة متأخرة من حياته، وقد تجاوز عمره السبعين عاماً، أيّ إلى حين اكتمال رحلته العقلية، وتيقنه من أن رسالته الفلسفية قد قرَّت في نفوس مريدين أكفاء، سوف ينقلونها بأمانة وتفانٍ إلى الأجيال التالية.
لقد قام سقراط بمناورة، وحين أحس بأنه قد حان الوقت ليستقيل من الحياة، دخل في صراع مع مناوئيه، وانتهى الأمر، كما توقع تماماً.
يحتاج المثقف العربي إذن إلى الأخذ بهذه المناورة «السقراطية» لكي يجعل عامل الوقت يعمل لصالحه.
copy short url   نسخ
18/04/2018
3299