+ A
A -
بيني وبينها مساحة من العمر جعلت جدرانها تحدق بي عند كل رجوع وكأنها تسألني عن الحال، نعم من الممكن إجراء حوار مع إسمنت الجدران، ومن الممكن معاتبة الباب القديم الذي لم يعد يستقبل أحداً، عرفتُ من سكوت جدران غرفتي أن للجدران لغة، وللسلم الحجري الموصل إلى الباب المهجور لغة تترجمها عشوائية العشب الطالع من النسيان في الزوايا، أعود إلى غرفتي حاملاً كل ما خبأتُه من أسئلتي وأوصاف حيرتي عن أسماع المحيطين بي في شوارع الحياة، الذين لا يحسنون الإنصات لي كما تفعل غرفتي، ولا يحسنون الإطلال على روحي كما تفعل نافذتها الوحيدة التي تشجعني على الوقوف أمامها لابساً قميص ترقبي وخوفي من بلاهة العابرين في التفاتي إلى الوقت.

في غرفتي أجدني، خاصة عندما أعبر المسافة بيني وبين الحذر من البوح للآخرين، إنهم لا يسمعون ما أريد قوله، بل ما يريدون سماعه، عيونهم مفتوحة على الفراغ، مع أن البحر يغني لوقوفهم، والشمس تمدهم بحكايات الضوء المسافر دائماً في تعب المسافة، والعصافير تشرح لهم شروط العيش المنفرد مع الهواء والاحتياج والخوف من تربص الموت بها دائماً، أتساءل عن سبب انقطاع الحديث بيني وبين الجالس بجواري على أريكة الصمت، وعن استمرار الحديث بيني وبين غرفتي التي تجعل من الصمت لغة.

في غرفتي أجد أشيائي كما تركتها، قلمي الذي يظل محتفظاً بحبره كي أرسم وجهاً لا أعرفه أو أكتب مطلع قصيدة لا أعرف كيف ستنتهي، أو أجد الكلمة الهاربة من تقاطع الحروف، جواز سفري الذي يجعل الشرطي يسمح لي بالعبور، فبه أصبح موجوداً، وبدونه تضيق بي ملاذات الهروب من التعقب، أحياناً أشعر أنه أهم مني كثيراً رغم أنه لا يعرف تفاصيل العتابا ولا أوجاع الميجنا المنسكبة على أثواب المواويل، ولا يعرف شيئاً عن جسور اغترابي وقلق خطاي من نظرات رجل الأمن الذي لا يُشعرني بالأمن أبداً.

في غرفتي أدندن أغنيتي التي أحفظها، لا أهتم بمن يسمع، قد أتوقف فجأة عن الغناء دون احتجاج من أحد، وقد أستمر في الغناء دون ترحيب من أحد، تلك طريقتي في الإحساس بالحرية، ذلك التعبير الذي يظل بعيداً كنجمة تائهة في درب التبانة، لا نتوارثه ولا نستسيغه نحن أبناء الظروف الصعبة والأوطان المستحيلة والإيمان المراقب من شرطة الأفكار وحراس القبيلة، لم نشاهد الحرية سوى على شكل سوط في يد القادر أو شكل هراوة في يد المتحكم، لم نعتد على قول ما نريد، ولم نرد أن يسمع أحدٌ ما نقول، غريب أنني أتكلم بصيغة الجمع، مع أنني وحيد في غرفتي.. ربما لأن معي جدرانها.

في جدران غرفتي نوع من الأمان، ليس من غضب الريح فقط أو من سطوة الشمس، إنما من عيون الباحثين عن عيوبي بنهم الباحثين عن فضيحة، ستارة غرفتي تواريني عن نظراتٍ باحثةٍ عن رقصتي السرية مع حلم لا يجيء ووعد لا يتحقق، أقفلها لأشعر بعدها بأنني أستطيع أن أكون أنا، دون التفات إلى خوفي من معرفة حقيقتي التي تعرفها غرفتي، حقيقة أنني أبكي على طرف السرير، وأستعرض صور الغائبين بلا كلام، وأتخيل دقات على الباب دون أن أسمعها.

غرفتي هي الوحيدة التي تراني عائداً إليها بهزائمي، بعد أن كنتُ أتوق إلى الخروج منها للقاء النهار بسكانه المدججين بابتسامات ليست لها ترجمة فورية، وليس لها تفسير يوحي بالفرح، أعرف معانيها بعد أن أغادر منفرداً إلى حيث صحوي، ومقابلة أخطائي، ومحاولات تفسير أسباب هزائمي.. إلى حيث غرفتي.
copy short url   نسخ
19/04/2018
3711