+ A
A -
أمر بسيط لم يلتفت إليه أحد ممن زرعوا في أدمغتنا أخبار انتصاراتنا، وزينوها برسوم ملونة، كي تسكن في عقولنا الصغيرة التي تعرفت للتو على معنى مدرسة ومدرس وطبشور وسبورة، كنا نحفظ مقتنعين بما هو مكتوب، وكان حفظنا لا يقتصر فقط على آيات القرآن الكريم، بل كان يتجاوز ذلك إلى حفظ المعلقات وجدول الضرب ومقولات المنتصرين في ذي قار والقادسية ومرج دابق، كانت تلك هي الحقائق في نظرنا الصغير الذي يحاول النظر إلى الشمس دون أن يفهم دورها أو دور الرجل الخشبي الواقف في منتصف الحقل ليحمي المحصول من العصافير التي كانت تتحداه وتبني أعشاشها على رأسه، كنا أداة طيعة لا نعرف المقصود من تحفيظنا عبارات معينة أو مقولات بعينها، كذلك ترسخت القداسة في وعينا ولا وعينا لكل صاحب منصب، من المدرس إلى مدير المدرسة إلى المفتش القادم من وزارة التربية والتعليم، ويظل تقديسنا يتصاعد مع تصاعد المراتب حتى نصل إلى صاحب أعلى مرتبة، وهنا يسكت الكلام، ويصيح ديك الخَرس ويسكت كل شيء، لم يعلمونا شيئاً اسمه الحوار أو التساؤل، لم يكن مسموحاً لنا التفكير خارج المنهج، ولا قراءة كتب أخرى قد تعارض المنهج وتكشف عيوبه، كان علينا أن نصفق بناء على إيماءة من المدرس، ونغني النشيد المكتوب عن حب الوطن ببطون خاوية وجيوب ليس فيها سوى مناديل البكاء من الضرب المقرر في الفصول.

كبرنا وكبرت قناعاتنا المزروعة فينا والتي ترسخت حتى تشبثت جذورها بأدق خلايا عقولنا، أقنعونا بأن الراديو والجريدة والتليفزيون وقبلها الحكواتي لا تقول سوى الحقيقة، وأن مصادر أخبارها وبياناتها لا تُناقَش ولا ينبغي أن تخضع للتحليل أو التفسير أو التأويل، فكنا نحن وأهلنا وجيراننا نهرع إلى تلك الوسائل كلما شعرنا بالخوف أو بالغضب أو بالعجز، فكانت تطمئننا بأن كل شيء على ما يرام، وتعيد على مسامعنا وأبصارنا المقولات ذاتها والأخبار ذاتها مصحوبة بصور ملونة عن انتصاراتنا التي لم نر أو نسمع سوى أخبارها عبر الملقنين المنتشرين في وسائل الإعلام ودور العبادة والمقابر، وكان المطلوب غير المعلن هو أن نكتفي بذلك ونقتنع ونرجع إلى بيوتنا متأكدين بأن النصر قريب، ولكن نصر مَن على مَن... الله وحده أعلم.

بعد كل ما حفظنا وصدقنا ورددنا، تسلسلت مآسينا وخيباتنا وهزائمنا، وتتالى العزف الجنائزي على عواصمنا واحدة تلو الأخرى، والبكاء على أول عاصمة شهيدة وهي القدس، تلاه بكاء على بقية عواصمنا، وعرفنا أن هزيمة سبعة وستين ليست بمفردها وإنما هي مجرد استهلال بسيط لاحتفالاتهم على جثثنا، هربتُ عندها إلى التاريخ، فوجئتُ بأن للتاريخ عدة آباء، منهم آباء يؤمنون بشيء، وآباء آخرون يؤمنون بنقيضه، كما وجدتُ للتاريخ آباء شرعيين وآباء غير شرعيين، وأن فرز وتصنيف الشرعيين عن غيرهم يخضع لاعتبارات كثيرة يدخل فيها المعتقَد واللون والعرق وربما الرائحة أيضاً، كما أن كل مؤرخ يقدح ويذم ويشكك في المؤرخ الذي سبقه أو الذي عاصره، تماماً كما يفعل الأطباء هذه الأيام، كل طبيب يستهجن تشخيص غيره للحالة، حتى يموت المريض من الحيرة بين الأطباء.

التاريخ يكتبه القوي والمنتصر، وليس للضعيف أو المهزوم سوى حفظ ما يدونه القوي والمنتصر في كتب التاريخ، وبما أن الأيام دول والأقوياء والمنتصرون يتبدلون والأمم في حالة موت وولادة، إذن سيتغير تبعاً لذلك التاريخ، ولا يمكن حصر التاريخ كله في كتاب واحد كما فعل الأميركي ديورانت في قصة الحضارة، لأن للتاريخ دهاليزه التي لا يجدي فيها إشعال شمعة الجزائري الراحل الطاهر وطار، ففي كل مرحلة تاريخية يتم دفن الحقائق تحت الأنقاض وتبقى على السطح الحقائق المراد لها أن تبقى، لذلك خرجتُ من بين أرفف الكتب متسائلاً.. أي تاريخ أقرأ..؟!.
copy short url   نسخ
19/07/2018
3483