+ A
A -
تَعرف، تَعرف أن في قلبكَ تَسكن حبيبةٌ وتُقيم، لا يُنازِعها في قلبكَ حُبٌّ، ولا تَسرق ضوءَ عينيها مِن عينيك عيون..
نَبْضُ قلبها هي لا يُضاهيه نبضُ عاشقةٍ، وسِحْرُ عينيها هي لا يُعادِلُه سِحْرُ فاتنةٍ، هي أول حُبٍّ تَفتح له عينيكَ وقلبَك، وهي تبقى السيدة الأولى في حياتك..
هَنَاؤُكَ يا أنتَ يَتوقف على رضاها، وشقاؤكَ إن أنتَ ما عادَتْ تُلازِمُكَ كَفَّاها، لكنَّ دعواتها بِساط يَحْمِلُكَ إلى الجنة، وصلواتها مفتاحُ بابِكَ إلى الله..
عن هذه الجوهرة الثمينة كَتَبَ الشاعرُ، ولَحَّنَ الموسيقارُ، وغَنَّت الحناجر الذهبية انحناءً لمعبودة سامية تَعبدها أنتَ في حياتك الثانية..
الأُمّ!
عِطر مَلائكي هي الأُمّ..
حديقةُ وَردٍ هي الأُمّ..
جنة على الأرض هي الأُمّ..
الأُمّ! يَتَمَدَّدُ المعنى وتَتَقَلَّصُ الكلمات، صَدِّقْ يا صديقي أنَّ الكلمات تَعْجِز عن أن تُوفي حقَّ كبيرةٍ في القلب والعين..
أنتَ الذي تَظَلُّ صغيرا في عينيها، أنتَ الساكنُ فيها بمنزلة الطفل المدَلَّل، مهما كبرتَ أنتَ لا يَسعك أن تُعطيها شيئا يوازي ما أعطتك..
نَعْمَلُ إِرضاءً لها قَدْرَ ما نَعمل، ونُهديها ورودَ الحُبّ قدرَ ما نُهدي، ونَتَوَدَّد إليها قَدْرَ ما نَتَوَدَّد، لكنَّ الواحدَ منا لو تَفَرَّغَ لها العمرَ كله لِيَرُدّ شيئا يُذكَر من أفضالها فإنه لن يَرُدّ حقَّ ركلةٍ قد سَدَّدَها في مرمى بطنها وهو يَتأرجح في محيط عائم يَشُدُّه إليها حبلُ مشيمة..
حبلُ المشيمة ذاك يَأخذ منها كُلَّ شيء لِيُمَرِّرَه لك، وحين لا يَجد ما يَكفيه مِن مكونات غذائية يَتأسس عليها وجودُكَ تَجِدُه يَسرق مِن مكونات أسنانها وعظام ركبتيها ليشحنك بالقوة، فكيف لك أن تتنكَّرَ لها زمنَ الشباب والفتوة؟!..
ولهذا لا تَندهشْ حين تَجد أُمَّكَ قد فقدَتْ بريقَ أسنانها التي تتسوس وتكاد تَسقط تباعا كما تَهِنُ ركبتاها فلا تكادان تَحملان الجسدَ، لماذا؟ لأنك كُنتَ تَأخذ وتأخذ من صحتها، تَهِنُ هي بينما تتقوى أنتَ، فهل أَعْطَيْتَها اليومَ شيئا أنتَ؟!
رائعة مِن روائع الأغنية العربية نَراها تَعبر حدود الزمن والمكان لِتُمَجِّدَ ذلك الكيان الذي تُمثله صومعة عالية عُلُوَّ شأن الأمّ، ومازالَتْ إلى الآن تَحيا الأغنية التي تُدَغْدِغُ الوجدان وتُخاطِب فينا الضمير الرحيم باسم الأمومة التي تَستحق التكريم، التكريم كل يوم وساعة ودقيقة وثانية ونَفَس يَتنفَّسُه إنسان، وليس مرة في السنة كحَلوى رمضان..
عالَم مِن التَّمَيُّز والرُّقي يَنقلنا إليه الثنائي الرائع حسين السيد مؤلِّف الكلمات ومحمد عبد الوهاب مؤلِّف اللحن، أَضِفْ إلى ذلك مَن جاورهما في صناعة الأغنية الخالدة من سبائك ذهبية ملفوفة في صورة أكثر من حنجرة وأوتار صوتية جادَتْ فَأَجادَتْ:
«ست الحبايب يا حبيبة
يا أغلى من روحي ودمي
يا حنينة وكلك طيبة
يا ربي يخليكِ يا أمي
يا ربي يخليكِ يا أُمِّي يا ست الحبايب يا حبيبة
زمان سهرتي وتعبتي وشلتي من عمري ليالي
ولسه برضو دلوقتي بتحملي الهم بدالي
أنام وبتسهري
وتباتي تفكري
وتصحي من الآذان
وتيجي تشقري
يا ربي يخليكِ يا أُمِّي يا ست الحبايب يا حبيبة
تعيشي ليا يا حبيبتي يا أُمِّي
ويدوم لي رضاكِ
أنا روحي من روحك إنتِ وعايشة
من سرّ دُعاكِ
بتحسي بفرحتي
قبل الهنا بسنة
وتحسي بشكوتي
من قبل ما احس أنا
يا رب يخليكِ يا أُمِّي يا ست الحبايب يا حبيبة
لو عشت طول عمري أوفي جمايلك
الغاليا عليّا
أجيب منين عمر يكفّي وألاقي
فين أغلى هدية
نور عيني ومهجتي
وحياتي ودنيتي
لو طلتِ تتمني يوم
دول هما هديتي
يا رب يخليكِ يا أُمِّي
يا ست الحبايب يا حبيبة
يا حبيبة يا حبيبة.. حبيبة».
وأنتَ تَسْتَظِلُّ تحت شجرة «ست الحبايب» وتُنْصِت إلى معزوفةِ ضوءِ الكلمات الهائمة في بحر اللحن الشَّجي الذي يَرقص على حبل الحنجرة الَجَّياشة الوَقْع سَتَشْعُر يقينا بأنك تُحَلِّق كالفَراش، ستَشعر يقينا بأنك تَطير بلا أجنحة وتَنتشي بذلك الطيران الحالِم حدّ الهذيان، ستَشعر يقينا يأيادٍ خَفِية تُداعِبُكَ أصابعها بكُلّ الحُبّ الممكن، الحُبّ المستحيل في زمن أَسْقَطَ قميصَ الطفولة مِن حقيبة ماضيه.. في انتظاركَ وأنتَ تُنْصِتُ بقلبك إلى «ست الحبايب» رُجوع إلى الطفولة وحنين إلى زمن الدفء بين يَدَيْ رَبَّةِ العطف والحنان التي لا يَكفُر بِدِين قلبِها قلبٌ ولا يَصعب قُدَّامَها صَعب..
شيء يُناديكَ مِن أعماقك ويَقول لكَ: «أَبْحِرْ، أَبْحِرْ أكثر فأكثر».. فتَردُّ أنتَ الذائب كلّ الذوبان: «خُذْنِي، خُذْنِي إلى القاع يا نَغَمُ، فما عاد لي في حَضْرَتِكَ سلطان على نفسي الأَمَّارة بالحلول والتوحد طمعا في مُعانقة نسيم الزمن الضائع، الزمن المسروق من ذاكرة العمر الْمُتْعَبة، ولا ذاكرة غير تلك الْمُثْقَلة بالرحيل والوداع وعَمود الفِراق الذي يُصْلَبُ عليه القلبُ الْمَيِّت..
دموع بأيّ حال تَعودين يا دموع؟!
هكذا سَتَجِدُكَ تُناجي عينيك وقلبَكَ، فإذا بالحزن يُبَلِّلُكَ أنتَ أنتَ التَّوَّاق إلى التصاق بِجِدار الماضي ما أن تَصْفَعَكَ «ست الحبايب» لِتُعِيدَكَ إلى سيرة طفولتِكَ الأولى، ستَشعر حينها بأن هناك مَنْ أَيْقَظَكَ مِن كابوس يَهرب بكَ إلى المجهول أنتَ الذي تَمْتَطِيه كحِصان جامح، ستَشعر حينها بِأن هناك مَنْ أَفْرَغَ فوق رأسك دلوا مِن الماء البارد، لِيَقول لك بلسان الفِعل غير الجامد: «هِيه! عُدْ إلى طفولتك يا راشِد»..
امرأة نورانية هي، فَمُها يُناديكَ في همسها، في قيامها، في رَجائها، وفي غيمة انتظارِها الْمُبَلَّلة بالوُعود القَلْبِية التي لا تَسْتَكْثِرُ عليها هِيَ قَرابين التضحية..
رائحةُ الجنة أنتِ يا أُمُّ.
copy short url   نسخ
21/07/2018
5151