+ A
A -
النّاظر في إصدارات الروائي السوداني الشّاب عماد البليك، يجدُ أن أعماله الأدبية، تزيد القارئ نشاطاً وتذهب عنه الكآبة والفُتور، لما لها من أيقونات العمق، وجماليات القصة، وكما أنّها مادة دسمة للدراسة النقدية، ومواضيع شيّقة للتحليل الأدبي، وعناوين مُرصّعة بألوانٍ زاهيةٍ تتزّينُ بها الصحف.
وبعد إمعان النّظر في باطن رواية «الإمام الغجري» الصادرة في عام 2018م عن دار أطلس، وإتقان القراءة في جزالةِ ألفاظها، ودِقّة معانِيها، وحرارة رنّاتِها، أول ما يجذب القارئ، تمكن الروائي من أدواته الكتابية لبناء قصةٍ كاملة العناصر، مسترشداً بخياله المتأصل من فلسفة الجمال «الاستاطقا-AESTHETICS».. بأن يجعل من القبح «UGLINESS» جمالاً آخاذاً، كفنانٍ يحيل بريشة الرسم تضاريس وجه قرد الشمبانزي القبيح، إلى لوحةٍ ساحرة تتماوج تحت أشعة الأصيل.. وعلى إيقاع فلسفة الجمال، رسم البليك رواية «الإمام الغجري» ولعمري هذا ضرب من الإبداع يشحذ القارئ لسبر غور الرواية.
الرواية تدفع بقارئها للتحليق في فضاء شاسع في عالم تحضير الأرواح الهائمة الذي لم يألفه القارئ من قبل ولم يعهده، وعالم التضاد الذي يعيش فيه شيوخ التصوف، الذي يجمع بين حياة الفردوس الأرضي والتحرر منه إلى الدينونة الصغرى، وعيش الملائكة والتحرر منه إلى الدينونة الكبرى، وعالم الأجهزة الأمنية المتمثلة في الغرور السلطوي الذي يقابل السماحة بالبطش، والوفاء بالغدر، وفي أرجاء تلك العوالم الثلاثة، يظل القارئ مشدوها في سبر غور الرواية من مبتدأها إلى منتهاها. فهذه الرواية محكمة الصياغة كعقد اللؤلؤ النفيس، ليس بالمستطاع تجاوز أي كلمة منها، إلا قراءتها كلمة.. كلمة وبنفسٍ لاهثة، كمن يرتقي درجات السّلم بمنوال ثابت دَرَجْ.. دَرَجْ وبنفسٍ لاهثةٍ.
تتجلى مقدرة الروائي في نقل القارئ بين المشاهد المرئية عبر السرد الجميل، فتارة يحكي بنيرة خاصة مميزة بصوت ضمير المتكلم المباشر «الراوي» وأخرى بإيقاع طروب بصوت ضمير المتكلم الغائب «روح الصحفي» وبين الانتقال بين المشهدين يشعر القارئ كأنه يتراقص بين لوحة مفاتيح بيانو، مرة بسلم موسيقي خماسي، وأخرى بسلم سباعي.
تراكيب الشخصيات في الرواية، أخذت المسار الهندسي، أو صفة الشخصية النمطية المرحلية المتصاعدة، بمعنى أن الشخصية في كل مرحلة، تأخذ صفة جديدة حتى تكتمل صفاتها، مثالاً عن ذلك المحقق يوسف، فقد تدرج بأنماط مختلفة، ففي البدء كان يُدعى الشاب، ثم مرّ بمرحلة الشاب الثلاثيني ثم الفتى الذكي، كما كان الضابط الحركي «دال» يحلو له مناداته قبل أن يطلق عليه أخيراً لقب كابتن «تسوباسا» وكابتن «ماجد»، إلّا أن عرّفه الروائي أخيراً باسم «يوسف».
وعلى ذات النهج أخذ المغدور «نور الدين» هذا النمط المرحلي المتصاعد، والكاهن الجنوبي كوستا، وكذلك محور شخصية الرواية الإمام سفيان النصري.. ولو تمكن القارئ من النظر إلى تراكيب النمط المرحلي لجميع الشخصيات أعلاه، عبر الرسم البياني، لرأى أن تراكيبها أشبه بتركيب مؤشر الأسهم الصاعد في سوق الأوراق المالية.
تتجلي عبقرية الكاتب في ترك مساحة واسعة للقارئ للتحرك من خلالها لاكتشاف التماثل بين الشخصيات، وما أكثر تلك المساحات!، فنجد مثلاً وجود توأمة بين المحقق يوسف وروح الصحفي بدر الدين، تعاطف ممزوج بين العالم الدنيوي الذي يعيش فيه المحقق يوسف، وعالم تحضير الأرواح الذي تعيش فيه روح نور الدين.. فالتعاطف مرده استلهام يوسف نفسه فرأى في نور الدين ذاته الأخرى، وكان أول هذا التماثل، هو أن نور الدين لم يجد حظه في الظهور مثله، ثم تشابهما في الموهبة، وكلاهما نشأ يتيماً، وكلاهما يتحلى بالمقدرة الكتابية والتحليل، ترتقي تلك التوأمة إلى الرغبة لمقابلة المحلل الأمني يوسف لروح نور الدين في عالم تحضير الأرواح، وبلغت الرغبة شدتها أن التقيا في المنام، وانتهت بالخوف من أين يكون مصير يوسف الموت غدراً بعد الوفاء مثل توأمه نور الدين، وقد وقع ذلك كفلق الصبح المبين.. فأحس القارئ بمزيج من المرارة بعدم إنزال العقوبة بالظلمة.
ولو أمعن القارئ فكراً، وبحثاً، ونظراً في ما يُشاكِلُ الشخصيات الثانوية ويضارع تراكِيُبها لتفتحت له آفاق أرحب للبحث والتحليل.. وبإمكانه إيجاد تناظر بين تلك الشخصيات أو اكتشاف اللغة الإشارية في مسودات الإمام سفيان النّصري الذي أخذ من كل فنٍ مِن الفنونِ سهماً مِن المعرفة، من أدبٍ ولغة، وكتابة وحكمة، فصاغ مسوداته-رغم حداثة سنه-بلغة مبطنة وضبابية. الرواية زاخرة بالجماليات، وتفيض إبداعاً فقد ترك الروائي مساحات شتى للقارئ للمشاركة في كتابة الرواية.
استنطاق روح الصحفي «نور الدين» في بداية الرواية، كانت أشبه بـ«الولادة المتعسرة»، فالقارئ كان مشدوهاً.. ومتطلعاً للدخول في هذا العالم الغريب.. عالم الأرواح الهائمة، وعندما نطقت روح الصحفي انفرجت أسارير القارئ مترقباً بشوق انكشاف المستور، رغم أن الروح لم تحك ما هو مفيد لحظتها.. إلا أن الروائي لم يدع حدثاً إلا جعل له دليلاً، وما خفي في قلوب الحضور في جلسة تحضير روح الصحفي نور الدين، جعل لها حجة ظاهرة، كأنّ القارئ يشاهد ضمير كل شخصية وطبعها، ومعرفة ظاهرها ومكتومها، مجهولها ومعلومها.. وما رُكّب عليها من خير وشر.. «فمخطئ من يظن أن الأموات لا يبصرون» هكذا بدأت الروية قوية بدفع رباعي.
ظهور شخصيات ثانوية على حين بغتة في الرواية كشخصية «ساتي» صاحب الصورة الموازية للإمام و«الفتاة السمراء» التي ملامحها إلى تضاريس وجه الإمام أشبه، أضافا لوناً سحرياً في حبك القصة، وجعلتها مثيرة وذوبت لعاب القارئ.
كشفت الرواية عالم الزيف والتناقض الذي يعيش فيه محور الشخصية الإمام الغجري وأجداده وأسلافه، معتمداً الروائي على بصيرته النفاذة القادرة على كشف هذا العالم الديني الذي غلبت عليه القيم المتضادّة وهكذا تكون الرواية فهي ليست سرد للقصة فحسب، وهذا النوع الأخير يرفضه القارئ، وقد تتجلى تلك الأضداد في النسك والانتحار، والاختفاء والظهور، وزواج السيد الحر بجارية زنجية، تسخير الشياطين والملائكة للإمام الطيب.. ولولا مخافة المريدين والاتباع «المخدوعين» من لعنة قد تصيبهم من قدسية الإمام لكشفت الرواية الأستار، وهتكت الأسرار.
أنّى نبلغ جماليات الرواية وإن أسهبنا، فالعبارات التي تذخر بها تستبد بمشاعر القراء لما فيها من البيان والسحر.
copy short url   نسخ
21/07/2018
3132