+ A
A -
- بقلم : د. عادل بدر - كاتب مصري
لتحديد العناصر المشتركة بين الحكايات؛ أي محاولة الوصول إلى اعتبار الحكايات تحققا متنوعـا لنموذج عـام وكوني. وكان ذلك يعني البحث عن العنصر الثابت في الحكاية وعزله عن العناصر المتحولـة بهدف خلق بنية عامة تتحقق في أشكال متعددة، وهنا يظهر عنصران داخل الحكاية: الأول: الشخصية، فهي السند المرئي لكل الأفعال المنجزة داخل الحكاية، وهي كيان يتميز بالتحول والعرضية.
الثاني: الوظيفة باعتبارها ما يبرر وجود الشخصية، وهي لذلك عنصر ثابت ولا يمكن المساس به دون الإخلال بنظام الحكاية ككل.
وقد لوحظ أن الشخصية في تغيرها وتحولها المستمرين تمنحنا، فرصة ثمينة لإدراك المضمون الحقيقي للحكاية ولتلوينها الثقافي والأيديولوجي. فإسناد فعل إلى شخصية معينة لا يعني الاهتمام فقط بما يصدر عن هذه الشخصية وإغفال كينونتها وبعدها الثقافي. فالعنصر الذي يشتغل كسند لوظيفة ما، له موقع داخل ثقافة معينة، وإذا لم نأخـذ هذا البعد الثقافي بعين الاعتبار في تعاملنا مع الشخصية فسنبقى في حدود تحليل شكلي لا طائل من ورائه.
ومن المآخذ التي تؤخذ على بروب قصر الشخصية على الصفات المسندة إليها نتيجة ميل النقد البنيوي إلى حصر الشخصية بالصفات، أي بالخاصيات الجامدة التي ينسب إليها النص، ومع أن العلاقة بين الشخصية وصفاتها مؤكدة إلا أن الصفات والأفعال قد تتشابه أن يتشابه أصحابه.
والشخصية هي مفهوم تخييلي، تدل عليه التعبيرات المستخدمة في النص الأدبي. هكذا تتجسّد الشخصية- حسب بارت- (كائنات من ورق) لتتخذ شكلاً دالاً من خلال اللغة، وهي ليست أكثر من قضية لسانية- حسب تودوروف- الشخصية كيان متحول ولا يشكل سمة مميزة يمكن الاستناد إليها، فهي متغيرة من حيث الأسماء والهيئات وأشكال التجلي. فقد تكون الشخصية كائنا إنسانيا، كما قد تكون شجرة أو حيوانا أو جنـا، أو ما شئت من الموضوعات التي يوفرهـا العالم. أما الوظيفة فهي عنصر ثابت وقار، ولايمكن أن نشيد كونا دلاليا داخل نص سردي في غياب السند الذي يقوم عليه هذا الكون، وهذا السند هو الشخصية «سواء كانت جنا أو إنسانا أو موضوعا من موضوعات العالم».
وينبغي التمييز بين (الشخصية الأدبية) و(الشخص الكاتب): فالأولى عامة لها قوانين وأنظمة تقننها وتقعّدها. والثانية خاصة تعني شخصاً معيناً في عمل معين، لـه سماته الخاصة، وصفاته النفسية والجسمية المحددة. ومع ذلك فكلتاهما تتلامسان، تلامس الخاص ضمن العام.
والشخصية هي كلّ مشارك في أحداث الحكاية سلبا أو إيجابا، أما من لا يشارك في الحدث، فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءا من الوصف. الشخصية عنصر مصنوع مخترع، ككل عناصر الحكاية، فهي تتكون من مجموع الكلام الذي يصفها، ويصور أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها.
وهناك تداخل وخلط بين الشخصية والشخص: فمع أن الشخصية هي نتاج اللغة، ولا وجود لها خارج الكلمات الدالة عليها في النص، فإنّ القرّاء ينظرون إليها أحياناً، كأنها شخص حيّ موجود خارج الحكاية.
فالحكاية الشعرية تجنب القصيدة السقوط في الذاتية المنغلقة، والغنائية المطلقة، وتكسبها بعداً موضوعياً، يتيح للشاعر التعبير عن قيمه الفكرية والعاطفية الحياتية بشكلٍ موحٍ، بعيداً عن التقريرية، كما تجنّبها الانزلاق في العمومية والغموض– والتجريد الميتافيزيقي؛ إنها لا تتسلق على تجربة القاص، بل تستخدمها وفقاً للمتطلبات الفنية للشعر، فالعنصر القصصي- الحكائي- لا يمتلك وجوداً مستقلاً.. بل ينمو كفعلٍ شعري داخلي.. يتدفّق ضمن التكوين الفني للقصيدة، لتصبح الحكاية عنصراً هاماً من عناصرها المكوّنة، بحيث لا يمكن فصله عن مجموع الكيان الشعري.
والشاعر هنا حين يتناول «شخصية من التراث» مثلما فعل أمل دنقل في قصيدة لا تصالح وغيرها؛ فإن هناك أسبابا دفعت الشاعر الحداثي إلى التعامل مع التراث، منها:
- ثقافي، إذ إن تطور المستوى الثقافي أتاح للشعراء قدرات جديدة لتطوير شعرهم وابتكار أساليب حديثة.
- فني، إذ إن الأغراض الشعرية المعروفة وأساليبها لم تعد تلائم العصر الحديث ومتطلباته وأفكاره مما جعل الشاعر المعاصر ينتقل بشعره إلى آفاق عميقة استطاعت أن تعبر عن حاجات إنسان العصر وهمومه.
وإن لجوء الشاعر إلى هذه الشخصيات جاء من خلال النظر إليها عن بعد مناسب وتمثله لها صورا وأشكالا وقوالب، بل جوهرا وروحا ومواقف بحيث أدرك فيها أبعادها المعنوية. إذ إنه عندما يتعامل مع تلك الشخصيات فإنه لا يريد بذلك ذكر حقائق مجردة عنها، فالحقيقة المجردة ليست من اهتمامات الشاعر وإنما تعامل معها لملاءمتها الواقع المعيش.
إنَّ استناد النص الشعري إلى بنية حكائية يعني المحافظة على أهم سمات هذا الامتداد فتحضر في النص كثير من متعلقات السرد القصصي وبذلك يفتح الباب أمام التناص؛ لأن البنية الحكائية تنتمي إلى الماضي أو التاريخ بكل ما فيه من أحداث وشخصيات وأفكار متضاربة وهذه كلها تريد أن تفرض وجودها في النص لذا تكون القراءة محكومة بهذا الامتداد الذي لابد من ملاحظته عند استجلاء دلالات النص برغم احتفاظ النص الأصلي «القصيدة» بالريادة أو الهيمنة على ما وظفته في داخلها من الخارج، والحقيقة التي تظهر في شعر حسب انه متنوع في مصادره التي يستمد منها. يقول الشاعر عبدالمقصود عبدالكريم: موجها حديثه إلى الشاعر أمل دنقل:
هوت الأحلامُ/ واستقرَّ العبدُ في صرير الرياح/ كان يموتُ/ وكنتَ/ كان يلوك على الموت في الأربعين بالسرطان/ ويقترح في رومانسية فجَّةٍ أن تموت بالشَّعْرِ/ في الأربعينْ/ يتدحرج كدويبةٍ/ لا مهرة ولا أحلامْ/ في الأربعين/ لا يختار ميتته/ ولا سواها/ كان يموتُ/ وكنتَ/ هوتِ الأحلام واستقرَّ في/ صرير الرياح/ حزنت المهرة السوداء/ صهلتْ أناه، لفظتْ أثقالها وانتفخت بهواء فاسدٍ غير أنها/ احتفظت في صندوقها الطيني باسم زائفٍ وحفنةٍ/ من الورقْ/ كنتَ تموتُ/ وكان/ استقرَّ في الصرير، ارتجَّتْ أناه/ ربما لا تعرف الـDEPERSONALIZATION/ ولكن هذا ما جرى.
ولهذه الشخصيات المستمدة من التراث الحديث أبعاد غنية ومرجعيات نفسية، فالحديث عن أمل دنقل في القصيدة السابقة طرح ورؤى من الشاعر يلجأ إلى هذه الشخصيات؛ ليبث من خلالها آراءه خصوصاً السياسية، لما لهذه الشخصية من موقف واضح فنيا وسياسيا. وإذ تتضافر الحالة التراثية مع حالة الشاعر الآنية، إذ لم يجد في التعبير المباشر ما يتسع لما يشعر به فلجأ إلى ذلك التعبير الرمزي.
copy short url   نسخ
23/07/2018
3015