+ A
A -
يبتكر المجتمع تحت الاستبداد، طرقا للتداول في الشأن العام الذي تحتكره النخبة السياسية والاقتصادية المهيمنة. هكذا كان سلوك الناس منذ الأزل، لكنه في الشرق أخذ أبعادا لا تخطر ببال. فالشرق الذي ابتدع نمطا استثنائيا في الاستبداد كان ناسه يلجؤون إلى مسخرة الظواهر والاحداث، واحيانا يضفون عليها مرارة تعبر بعمق عن وطأة الظلم الذي يخضعون له ويحفر في نفوس أجيالهم، حتى يصبح الامتثال سمة لازمة للناس المكرهين على الضنك.
تحت الاستبداد يلوذ الناس بالترميز ليجلوا شيئا مما يعيشون من تعب. على انه ليس صعبا قراءة كل هذا الطيف المتنوع من الآراء الذي يلعن سنسفيل الاستبداد والتضييق على البوح. هم يعرفون في لحظة ان لسان حال الاستبداد يطبق قاعدة تقول: قولوا واكتبوا بالترميز ما تشاؤون ونحن نفعل ما نريد، على الا يتحول تعبيركم إلى فعل، فعند ذلك يسيل الدم.
متوالية رفع الاسعار، في سياسات الحكومات غير المكترثة بالانسان تظهرها الدعاية الرسمية وكأنها لفائدة الناس وحياتهم الآمنة. أما حرمان الصغار من الحليب واللحوم بألوانها أيضا فيبرز كمصلحة وطنية، في ظل انحسار المداخيل وتغلغل الأزمة التي تطال القلة القليلة المتحكمة بأرزاق البلاد والعباد.
مضاعفة أُجرة الرحلة الطويلة إلى المدينة تروجه الدعاية الرسمية قرارا في مصلحة البائس غير السعيد بمعاش «البين والنيا». وهذا البائس يفهم في سره وعلانيته ان الغلاء مُقدس، لكن الاحتجاج مُدنس. وأن غسل مسرح الجريمة ورش السكر على الموت فضيلة تحمل مسمى تفهم الأوضاع الحرجة التي تعيشها البلاد. فيما افشاء المهادنة والتواطؤ رؤية، ومصافحة العدو حلم وسلام، والابتهاج بسارق الأرض حكمة.
يعرف الفقير انه وهو يبيت الطوى جوعا فإنما يستجيب لغريزة البقاء وهذا يعني رشدا وتفهما للأوضاع التي لم يطرق مسامعه يوما أنها كانت غير ذلك.
بلغت الأمور أن نسبة كبيرة جدا باتت متخصصة في النبش في حاويات الأحياء.
«المسعدة»، فذلك يعد فرصة عمل لا تتأتى ببساطة، لأن زحاما تشهده مواقع حاويات هذه الأحياء التي تقود الدفة. أحياء تتكتم وتمتنع على غالبية المقهورين، وتشيع ثقافة الاسترخاء وتبليع السياسات ومظاهرها تحت شعارات ليس أقلها «الانتماء» و«الولاء» في ثنائية يحفظها الناس عن ظهر قلب لطول ما سمعوها.
في تحليل شؤون المجتمع تحت الاستبداد والقهر، يبدو الناس جميعها صالحين لإنعاش موت يموتونه ألف مرة في النهار. ثمّة بينهم من يسأل ويتساءل في كل لحظة ألف سؤال استنكاري: ترى من هو حفار القبور؟!
أستعيد هنا، ما عاشه والدي يرحمه الله ذات بيدر بعد أن سرقه السرّاق. ففي سنة جود وغلال، غاب أبي عن البيدر ليلة أمضاها يذرع الأودية بحثا عن جزء من القطيع الذي سرقه السرّاق. أذكر أنه عاد منهكا وفي المساء غادر إلى البيدر فلمّا وصله وجده قاعا صفصفا. قال بلسان من اختزل مشهد الحياة تحت سطوة اللصوص: لعنة الله على سارق الحَب (البدو يسمون القمح والشعير «حب» بفتح الحاء). أضاف: سرقوا عاما كاملا سيكون العيش فيه مثل العلقم على الرغم من أمطار وفيرة وربيع غزير.
فلا يهم أن يكون المطر مدرارا، والأرض خصبة، ليكون الربيع عميما ومبشرا لفلاح ينتظر لحظة الحياة في البيدر، ذلك أن الأهم هو من يصون نعم هذا الربيع، الذي قد يتحول إلى مصيبة لجموع الناس الذي لا يخطر لهم أن من يقوم على أمرهم ما هو إلا حفار قبور في وضح النهار.
في تراث الشام الشفوي، قول يلخص واقع الحال: إذا دخل الآغا بلدة عليها أن تغتسل بملح البحر لتتطهر!
copy short url   نسخ
10/08/2018
727