+ A
A -
صباح يوم الثلاثاء، السابع من أغسطس 2018 أعادت الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترامب فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية التي كان يقوم الرئيس الأميركي بتجديد إعفاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية منها كل 90 يوماً وفقاً للاتفاق النووي مع إيران، والذي انسحبت واشنطن منه.. تلي هذه العقوبات في شهر نوفمبر من عام 2018 مجموعة أخرى من العقوبات كان يعفي الرئيس الأميركي طهران منها كل 180 يوماً.
تتركز الحزمة الأولى من العقوبات على تجارة القطاعات الاقتصادية غير النفطية وتجارة العملة في إيران.. تستهدف الحزمة بشكل أخص المجالات التالية:
1- شراء الدولار الأميركي.
2- تجارة الذهب والفضة والمعادن الثمينة.
3- توريد معادن إلى إيران مثل الجرافيت والفحم والألومنيوم والصلب.
4- إجراء صفقات كبيرة بالريال الإيراني.
5- التعاملات التي تخص سندات ديون سيادية لإيران.
وأما الحزمة الثانية من العقوبات فتغطي قطاعي الطاقة والمصارف الإيرانية. وتستهدف هذه الحزمة بشكل أدق المجالات التالية:
1- الموانئ الإيرانية، الخطوط الملاحية، والصناعات الملاحية.
2- شراء النفط والمواد النفطية الإيرانية.
3- قطاع الطاقة الإيراني.
4- تزويد إيران بخدمات التأمين.
ولا تستهدف هذه العقوبات المواطنين الأميركيين فقط، بل المواطنين غير الأميركيين أيضاً، ويأتي ذلك في إطار نوع من العقوبات معروف بـ«العقوبات الثانوية».
حزمة معقدة
تعتبر هذه العقوبات نتاجاً لعقود من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على طهران.. يقسم تقرير مجموعة الأزمة الدولية المعنون بـ«شبكة العنكبوت: صناعة وتفكيك العقوبات على إيران»، الصادر في فبراير 2013، العقوبات على طهران تاريخياً إلى ثلاثة مراحل.
المرحلة الأولى تمتد من 1979 إلى 1995 وقد استهدفت خلال هذه الفترة إيران على خلفية أزمة الرهائن الأميركيين، والسلوك المعادي لواشنطن، ودعم طهران لمجموعات عنيفة.
المرحلة الثانية تمتد من 1995 إلى 2006 وقد استهدفت خلال هذه الفترة إضعاف نظام الجمهورية الإسلامية من خلال استهداف قطاع النفط والغاز ومحاولة منع النظام من الحصول على تقنيات حساسة تساعده على تطوير برنامج نووي وصاروخي.
المرحلة الثالثة تمتد من 2006 إلى 2010 وتستهدف طهران اقتصادياُ على خلفية تطوير برنامجها النووي وتأتي العقوبات الأميركية في هذه المرحلة في سياق حزم عقوبات أوسع فرضتها دول أخرى صديقة لواشنطن (بالتنسيق معها) وعقوبات أممية.
تكمن أهمية المرحلة الثانية من العقوبات في إدخال واشنطن تشريعات وبنود تستطيع بموجبها فرض عقوبات على غير الملتزمين بعقوباتها من غير الأميركيين.. بدأت هذه العملية منذ فرض قانون عقوبات إيران– ليبيا (الذي تمت إعادة تسميته بعقوبات إيران بعد حذف ليبيا من قائمة العقوبات) في عام 1996 تحت إدارة الرئيس بيل كلينتون، ولكن زادت وتيرة العقوبات في المرحلة الثالثة تحت إدارة الرئيس باراك أوباما.. تضمنت فترة الرئيس أوباما سلسلة من العقوبات المعقدة التي استهدفت بالأخص قطاعي الطاقة والمصارف في إيران.. من أهم قوانين عقوبات إدارة الرئيس أوباما كان قانون العقوبات الشامل، المحاسبة، وتصفية العقوبات الذي تم اعتماده في يوليو 2010، المعروف اختصاراً باسم CISADA، والذي يستهدف الأنشطة المتعلقة بقطاع الطاقة الإيراني.. تلى هذا القانون، قوانين عقوبات أخرى تستهدف التحويلات المصرفية التي تسهل تسديد فواتير صادرات النفط الإيرانية مثل قانون تفويض الدفاع الوطني الذي تم اعتماده في عام 2012، والمعروف اختصاراً باسم NDAA.. وتم إقرار قانون آخر يتسم بالشمولية هو قانون عقوبات إيران الحرية ومنع الانتشار المعروف اختصاراً باسم IFCPA والذي تم اعتماده أيضاً في عام 2012.. يستهدف قانون العقوبات هذا قطاعات ومجالات الطاقة، الملاحة، الموانئ، وبيع وتوريد المعادن (خاصة المعادن الثمينة) إلى إيران.. وجعل القانون الأخير من الصعب على طهران وعواصم أخرى مقايضة النفط الإيراني بمعادن ثمينة.
غياب الإجماع الغربي
قام ركن مهم من أركان استراتيجيات العقوبات الأميركية ضد طهران على العمل على تكوين تكتلات دولية داعمة لتحركات واشنطن على هذا الصعيد.. على مدار هذا العقد على الأقل، أرسلت واشنطن وفوداً لإقناع عواصم صديقة بأهمية هذه العقوبات والتأكيد على علاقة طهران بجماعات عنيفة تزعزع الأمن في منطقة الشرق الأوسط ومناطق مجاورة.. كانت هذه التحركات الدبلوماسية سلسة وذات تأثير مع استمرار العلاقات بين واشنطن والعواصم الأوروبية (وبروكسل) على مستوى استراتيجي.. ولكن يبدو هذا موضع شك تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي شهدت خلال فترته تدهوراً في العلاقات بين واشنطن وبروكسل على خلفية عدة ملفات ومنها الملف النووي الإيراني.
في أعقاب إعادة فرض واشنطن للعقوبات ضد طهران في السابع من أغسطس 2018، أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً رافضاً للانسحاب الأميركي وإعادة فرض العقوبات.. إن غياب الدعم الأوروبي والموافقة الصينية يجعل العقوبات الاقتصادية الأميركية تعمل دون الكفاءة المطلوبة (حتى وإن استطاعت واشنطن ضمان اصطفاف دول آسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية معها). ولكن تبقى إحدى رهانات واشنطن هو اصطفاف بروكسل والعواصم الأوروبية تدريجياً مع واشنطن، مثلما اصطفت معها في أكثر المواقف ضد طهران (خاصة في المرحلة الثالثة من مراحل فرض العقوبات). ولكن لا يبدو أن إدارة ترامب ستكرر سياسة إدارة كلينتون، حينما أعفت الأخيرة الشركات الأوروبية من العقوبات الاقتصادية وفقاً لقانون عقوبات إيران– ليبيا، في مقابل تعاون بروكسل مع واشنطن على ملفات مكافحة الإرهاب تستهدف طهران.
بينما هددت بروكسل والعواصم الأوروبية إدارة كلينتون بتطبيق آليات حماية BLOCKING STATUTE للشركات الأوروبية التي لها تعاملات مالية مع إيران (خاصة في قطاع النفط والغاز) قبل أن تتم تسوية الخلاف بين واشنطن وبروكسل الذي كاد أن يؤدي إلى حرب تجارية، فإن الاتحاد الأوروبي يبدو عازماً اليوم على تطبيق هذه الآليات في هذه المرحلة لدعم الاتفاق النووي.. ومع ذلك يرى مراقبون أن هذه الآليات غير قادرة في الوقت الحالي على الحيلولة دون انسحاب شركات أوروبية وحماية تلك الشركات التي تقرر الاستمرار في السوق الإيراني.. وفقاً لآلية الحماية، يعاقب الاتحاد الأوروبي الشركات التي تنسحب من السوق الإيرانية خضوعاً للعقوبات الأميركية.. ولكن في نفس الوقت انسحبت العديد من الشركات الأوروبية المستثمرة في قطاعات اقتصادية حيوية في إيران قبل فرض العقوبات الأميركية، مما يخرجها من دائرة العقاب.. كما أن حجم العقوبات الأوروبية على الشركات الأوروبية المستجيبة أقل من نظيرتها الأميركية، مما يجعل الشركات التي لديها تعاملات ضخمة مع واشنطن تختار الانسحاب وتحمل عواقب العقوبات الأوروبية، في سيناريو الانسحاب بعد فرض العقوبات الأميركية (استجابة لها).. حيث أوقفت عشرات الشركات الأوروبية تعاملاتها مع الجانب الإيراني (في مجالات كالنفط، الغاز، التأمين، الملاحة الجوية، والسيارات وغيرها من المجالات والقطاعات) قبل فرض العقوبات الأميركية.
وفيما حاول الاتحاد الأوروبي تقديم حوافز اقتصادية أكثر إلى الجانب الإيراني للبقاء في الاتفاق النووي، لا تبدو هذه الحوافز مقنعة لطهران، إذ لا ترسم بروكسل خطة واضحة لهذه الحوافز بالنسبة للأولى. فإن مؤسسات أوروبية من المفترض أن تشرف على بعض من هذه الضمانات تبدو مترددة تجاه تطبيقها خشية وقوع عقوبات أميركية عليها، كما في حالة بنك الاستثمار الأوروبي الذي صرح مسؤوليه أيضاً بأن بروكسل لن تجبره على الاستثمار ما لم يرى فرص استثمارية.
التداعيات السلبية
إن الهدف الرئيسي لمجمل حزم العقوبات الأميركية هو قطاع النفط (بصورة أو أخرى) والذي يشكل ركيزة مهمة للاقتصاد الإيراني، بنصيب 13.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، وفقاً للبنك الدولي (فيما بلغ متوسط نصيب النفط في الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي 21.4 في المائة تقريباً في ذلك العام).. وفيما لا يبدو أن مستوى التنسيق الدبلوماسي لإدارة ترامب بشأن فرض العقوبات على القطاعات النفطية وغير النفطية مماثلا لتنسيق إدارة أوباما، من الصعب التكهن بنتائج العقوبات التي ستستهدف القطاع النفطي في شهر نوفمبر. ولكن يمكن النظر إلى مستوى الصادرات من أغسطس إلى نوفمبر كمؤشر مبدئي على ما قد تؤول إليه مستوى صادرات إيران النفطية في عام 2019.. تحد الحزمة الأولى من العقوبات التي تم فرضها في السابع من أغسطس من قدرة طهران على المناورة من خلال بدء بيع نفطها عبر صفقات مقايضة يتم فيها استخدام معادن ثمينة، والأهم، تلقي عوائد مبيعاتها النفطية بالدولار الأميركي في وضع طبيعي.
ومع ذلك يبدو ميراث طهران في مراكمة خبرات تمكنها من التهرب من العقوبات الأميركية على قطاعها النفطي سيساعدها على الحد من حدوث تراجع كبير في صادراتها النفطية في ظل وجود فجوات في استراتيجية عقوبات إدارة الرئيس ترامب، مقارنة بسلفه.. ففيما تراجعت صادرات النفطية والغازية لإيران إلى 500–600 ألف برميل نفط ومكثفات غازية يوميا في بداية العقد الجاري، استطاعت طهران لاحقا (قبل إتمام الاتفاق النووي) بفعل استراتيجيات عده رفع صادراتها النفطية والغازية إلى المليون برميل يوميا، وفقاً لسيد محمد الخطيبي، رئيس قطاع العلاقات الدولية في الشركة الوطنية الإيرانية للنفط.. تشكل أيضاً تذبذبات سعر خام النفط (برنت) عاملاً مهماً في تقدير مستوى الخسائر الإيرانية في المستقبل القريب والمتوسط، وذلك بتقدير التأثيرات المتبادلة على مستوى الأسعار بين صعود المخاطر الجيوسياسية في منطقة الخليج (ومناطق أخرى) التي ترفع من مستوى سعر خام النفط بفعل مخاوف تهديد الإمدادات ودخول مشاريع نفطية جديدة حيز الإنتاج في عام 2019 تزيد من حجم المعروض في السوق (مؤدية إلى تراجع في الأسعار، إذا تم عزل المتغيرات السوقية الأخرى).
زيادة التضخم
من المتوقع أن يؤدي التراجع في عائدات النفط إلى زيادة التضخم الذي شهد تحت حكومتي الرئيس حسن روحاني أقل معدلاته منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية.. شهد معدل التضخم في إيران، على أساس سنوي، في الربع الأول من العام المالي الحالي في إيران (1397 شمسي) نمواً بطيئاً.. في شهور فروردين (مارس– أبريل) وارديبهشت (أبريل– مايو) وخرداد (مايو– يونيو) وتير (يونيو– يوليو)، زاد معدل التضخم، وفقاً لمركز الإحصاء الإيراني، من 8 إلى 8.7 في المائة.. إن هبوط قيمة الريال الإيراني سيؤدي، على الأرجح، إلى رفع معدل التضخم ودفعه من تضخم ذات رقم واحد إلى ذات رقم مزدوج في المستقبل القريب. منذ يناير 2018، فقد الريال الإيراني أكثر من 50 في المائة من قيمته مقابل الدولار الأميركي.. أتى هذا الهبوط المعتبر، في جزء منه نتيجة المخاوف من تأثيرات العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني.. في مقابل تدهور قيمة الريال الإيراني منذ بداية العام الحالي، أعلن الرئيس روحاني عن إجراءين لوقف هذا النزيف.. وأعلن روحاني عن دخول الإجراء الأول في حيز التنفيذ في العاشر من أبريل، واستهدف هذا الإجراء توحيد أسعار الصرف عند سعر 4200 ريال إيراني مقابل الدولار الأميركي، إذ زادت قيمة الدولار آنذاك ليصل إلى 6000 ريال. ثم أعلن روحاني عن إجراء ثانٍ في أغسطس يستهدف تخفيف القيود التي تم تنفيذها في إطار الإجراء السابق، وهو ما جعل قيمة الريال تتعافى بنسبة 20 في المائة، بعد تراجعها إلى 10000 في مقابل الدولار الأميركي. يدفع تذبذب العملة المستهلكين والمضاربين في إيران إلى الاستثمار في أصول ثابتة وهروب السيولة النقدية إليها، والتي يعد قطاع الإسكان والعقارات أهمها.. وهناك مخاوف من تحول هذه الظاهرة تدريجيا إلى (شبه) فقاعة عقارية، مثلما كان وضع القطاع في الفترة الثانية من فترة إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد.. يعزو محمد شكرتشي زاده، رئيس مركز دراسات الطرق، الإسكان، والتخطيط العمراني، معاودة أسعار الوحدات السكنية الصعود إلى هروب رؤوس الأموال إلى هذا القطاع بسبب الأزمة التي تمر بها طهران مع الغرب مدعومة أيضاً بانخفاض الفائدة البنكية.. في مقابل الارتفاع المتوقع في معدل التضخم وهروب رؤوس الأموال إلى الأصول الثابتة، وهناك احتمالات غير قليلة إلى قيام البنك المركزي الإيراني برفع سقف الفوائد البنكية.. وقد يكون الاستثمار المتزايد في الذهب سبباً آخر لاتجاه المركزي الإيراني إلى هذه الخطوة، إذ تتجه مصارف خاصة (مرخصة)، وفقاً لموقع «تابناك» المقرب من قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي، إلى كسر السقف الذي وضعه البنك المركزي ورفع الفوائد لجذب المستثمرين في ظل الظروف الحالية التي تتم بالاضطراب.. ولكن إذا اتجه البنك المركزي إلى زيادة الفائدة، فأنه سيأخذ خطوات حذرة كي لا يدفع بالاقتصاد إلى الركود.
copy short url   نسخ
10/08/2018
925