+ A
A -
لحظة مفصلية تُسَمَّى الموت، لحظة هي تَضرب عنقَ جسد الحياة ضربةَ زلزال، فلا تُرْضِي غرورَ نفسك الوَلْهَى إجابةٌ حينها ولا يَشفع لك سؤال..
عاصفة الموت يتداعى لها جدارُ الروح ويَسقط، لكن عَمودَ الطمع لا يَنحني، أمام ضربة قاضية بإسقاط جِبال، ولا يَسقط..
مَنْ كان يُصَدِّق يا صديقي أن صاحبَنا ليو تولستوي LEO TOLSTOY الفارّ بأوراقِ واقعيته الْمُهَرَّبَة إلى غابات ذاته، هو بَطَلُ سباق الأدب الروسي، سيُمَدِّد أصابعه لِيُحَرِّكَ عالَما روائيا لا يَخرج عن حياة صغيرة، حياة شَرِبَ قِدِّيسُها الكبير جرعاتٍ مِن كأسها المريرة، قبل أن يَقوى على أن يُعيد ترتيبَ أسئلة الهوية، والوجود، في حَيِّز مكاني مُعَلَّق ولا يَعِدُ بالخلود؟!
نَعَمْ، صَدِّق يا صديقي، إنه مَوْعِدك لِتُطِلَّ من نافذة الرواية على تجربة حياة واقعية لِقاضٍ تَعَثَّرَتْ قَدَماه في جُبَّة الأرستقراطية الْمُزَيَّفة قبل أن يَعِيَ أبعادَ لعبة الزَّيْف الْمُشَوِّهة لِمَلامح وجه الحياة..
نتحدث عن «موت إيفان إليتش»، وإيفان إليتش هذا زاوَل مَهامه باجتهاد في سِلك القضاء هو الحريص على القفز على حِبال السُّلَّم الوظيفي إلى أن بَلَغَ سَقْفَ مُدَرَّج الأماني..
هذا المنصب الذي كان يَسيل له لُعاب زملائه، ممن كانوا يَرَوْنَ أَنْفُسَهُم أَكْفَاءً لِيَرُومَه الواحدُ منهم، هو المنصب نفسه الذي لم يَرحم هؤلاء من الحُلم بالعزف على وتر التسلق الوظيفي وجُثَّته (إيفان إليتش) لم تَهمد بعد مِن انتفاضات طلوع الروح..
أسئلة الحياة والموت يَبسطها ليو تولستوي على طاولة النقاش وفق رؤية فلسفية سيكولوجية تَنْأى بالرواية بعيدا عن التناول السطحي لِتيمة مِنَ العَيب ألا يُعيرَها صانعُ الواقعية الخَلاَّق درسا وعبرة..
لن نَقِفَ هنا عند مستوى الدرس الواحد، لماذا؟! لأن كتابة ليو تولستوي تُقَدِّم نفسها باعتبارها مَدْرَسة، مدرسة هي أكبر مِن أن نُقَزِّمَ النظرَ إلى قَلَم لا يَجفّ حِبْرُ حِكَمِه المستخلَصة مِن مسيرة رِحلة تَأَمُّل طويلة في مِرآة الحياة..
رحلة تأمل كهذه أَطْلَقَتْ العنان لإيفان لِيَتَحَدَّثَ بلسان ليو تولستوي عن لاجدوى الحياة تلك الْمُعادِلة لِلاجدوى الموت المخيِّب لِآمال طالِب الحياة النَّهِم في إقباله على كأسِها تلك التي تُسْعِر ولا تُسْكِر..
صاحبُنا ليو تولستوي بِحَبْل معاناته الطويلة في عُلبةِ ليلِ الحياة هو الأكثر قدرة على صياغة أسئلة الوجود مِن مَدْخَلَيْ الحياة والموت، فحياةُ كاتبنا لم تَخرج عن موت مُصَغَّر يُجَرِّبُ هو فيه أن يَنفخ فيه الحياة بما سَيَّجَه بها مِن كتابات، والموت بالْمِثل لن يَكون في عَيْنَيْ ليو تولستوي بشيء آخَر سِوى الحياة الثانية..
الموت حياة، حياة ثانية هو رغم قِصَر لحظاتها الأَمَّارة بإطفاء الرغبة في الحياة، الموت حياة تُلَقِّنُكَ مِنَ الدروس ما لا تُلَقِّنُكَ إياه الحياةُ، لذلك بَنَى ليو تولستوي صَرْحَ عالَم إيفان الروائي على خلفية فاصِل أخير يَكونه الموت الذي أَمْطَرَ مِن الحقائق ما لا تَذْرِفُه غيمة..
في رائعته الروائية «موت إيفان إليتش» يُمَرِّرُ ليو تولستوي رسالةً مفادُها أن نَتَأَهَّبَ لصدمة الموت، دون أدنى حَدّ من الإيقاع به بعيدا عن حساباتنا الدنيوية، في ذروة هيامنا شوقا إلى سَوط السلطة وتَبَلُّلِنا حَدَّ الغرق تحت إغراءات النُّفوذ وهَوَسِنا بالركض الماراثوني خلف المناصب..
إيفان إليتش القاضي لم يَرحمه قَدَرُه الماضي به إلى نَفَق ما بعد الموت، لكن لِنَقُلْ إنه قبل العبور لم يَنثر قُبَالَتَه الورودَ والزهور، لماذا؟! لأنها اللحظة الحاسمة التي سَيَجْتَرُّ فيها ماضيه بسرعة البرق لِيَقِفَ عند حقيقة مُرْعِدَة تَقول إن ما مِن شيء قد بناه على أرضية صَلبة، وما شهوات الدنيا الزائلة ومَتاعها ومُتَعها سِوى حبل جُنون يَرقص عليه الغافِلون الْمُغَفَّلُون..
زَحْفُ شبح الموت يُنْسِيكَ حُمَّى الركض المسعور خلف تِجارة تَبُور. إنها الدنيا، ولا أحد يَسْلَم مِن مخالب الدنيا ما لم يَسْلَمْ قلبُه وعقلُه وروحُه تلك التي تُعلن العصيان في أَشَدّ الأوقات حاجة إلى الامتثال والإذعان..
لا أحد، لا أحد جَرَّبَ أن يَأْخُذَ بِيَد القاضي إيفان بعد أن نال منه الوَهن باستثناء مَن لم يكن يَهمه أمره، فقد انْجَرَفَتْ ساقاه المتلهفتان على السيادة، ونَسِيَ أن لحظةً حَرِجَةً على سرير الخوف الْمَرَضِي أَمَّارة بالإِبَادة.
الديكتاتورية لعنة، ووَقعُها لا يَختلف عن وَقع ضربةِ مطرقة تُرْدِيك وتُحييك حياةَ جُثَّةٍ تَمشي على قدمين، فلا تَكاد تَعرف مَنْ معك ومَنْ عليك، مَن الْمُخْلِص ومَن الغَدَّار، مَن الْمُقَصِّر ومَن ذاك الذي أنتَ مَدين له باعتذار..
«قاموا جميعا، قالوا: ليلة سعيدة، وذهبوا. بعد أن غادروا شَعر إيفان إليتش بتحسن، فقد ذهب الزيفُ معهم، لكن الألمَ بقي، نفس الألم ونفس الخوف الذي يَجعل كل الأشياء متشابهة برتابة» [موت إيفان إليتش].
تجربة الموت تجربة لا يَنقصها النضج، لكن شَتَّانَ بين نضج تجربة الموت الكافرة بالحياة، وذاك النضج الْمُزَيَّف الذي صَيَّرَكَ عبدا لِطُوب الحياة..
إيفان إليتش يَفكّ التشفير عن وَهْم الحياة في وقت متأخر لِيَستيقظ مَيتا على حقيقة مؤلمة هو الذي لم يَكُنْ تقييمه للآخَرين أكثر مِن ملفات قد لا تُكَلِّفُه عناء النظر فيها هو الذي تَعَرَّضَ لِـ «فَرْمَتة» عينيه ودماغه حدّ ألا تَخرج الحياة في مرآتهما عن محكمة كبيرة، ومن ثمة نتحدث في محكمة الحياة عن قضايا ومتهمين وجُناة وذيل مِن المداوَلات.. لا وقت للإحساس، هكذا كان إيفان يَترك الانطباعَ عند أقرب الناس. وعدم إيمانه بالمشاعِر جَعلَه جَلاَّدا بنبرة صوته الداخلي الثائر، لا بل أكثر مِن هذا فإن نوافذَ عينيه لم تَكُنْ مشرعة إلا على عتمة يَذوبُ فيها ضوءُ شموع المثالية..
مِن عَين إبرة الطريق إلى الموت ستَرى العالَم أصغر مِن أن تَحمل هَمَّه، عالَم كان يراه إيفان هكذا في لحظاته الأخيرة تلك التي ابتُلِيَ فيها بمَرض عصي عن التشخيص، لكنه يُشَجِّع على محاسبة الضمير الْمَصْلُوب لوقت طويل على عمود الحياة..
عند رصيف آخِر محطات الحياة، سيَسقط ستار الظُّلْمَة لِيَرى إيفان الوجهَ البَشِعَ للحياة، يَراه هو المفتون، بغروب شمسه، كما لا يَراه الآخَرون.
copy short url   نسخ
20/10/2018
3436