+ A
A -
تغامر متسولة بتعريض حياتها للخطر المميت في أحد شوارع العاصمة الأردنية، بمنع السيارات من المرور ما لم يناولها السائق مبلغا مهما يكون مقداره. المتسولة اختارت اخطر الطرق واكثرها جلبا للموت أو للمال أو كليهما معا. تستفز طريقة التسول هذه حميّة الوزارة المعنية، التي تبدو سياستها إن وجدت تقوم على ردات الفعل وليس منع حدوث الفعل أصلا. فبعد إبلاغها بحالة المرأة، ترسل الوزارة على الفور فريقا لجلب المرأة التي ربما يكون تسولها تعبيرا مزدوجا في البحث عن الخلاص السريع والناجع: إما موت سريع أو مبلغ يسعفها لمتابعة الحياة كيفما تيسر. لكن مهلا قد تكون طريقة مبتكرة في قنص أي مبلغ دون الولوج في ميمعة استدرار التعاطف والإجابة على أسئلة لا حصر لها، فضلا عن الهروب من متاعب التعامل مع الفضوليين، وما اكثرهم! سلوك هذه المتسولة يعد غرائبيا وفي هذه الغرائبية تكمن المفارقة القهرية التي تقول إن في ظلم المجتمعات المتوحشة للفرد تسود مفاهيم تقود إلى نتيجة واحدة: لا فرق بين الحياة والموت. فالفقر الذي يدفع إلى هذا الحد من المغامرة لم يعد يحتمل توصيفا عاديا. انه باختصار «حياة من قلّة الموت» على ما يعبر اللسان الشعبي. واللسان الشعبي هنا، يعني تكثيفا للوعي العام بجملة ينحتها الناس فتصبح قاعدة وبوصلة، تميط اللثام عن المواجع التي تشل الحياة. فـ«قلة الموت» تعني بشكل أو بآخر البحث عنه بطرق مبتكرة تحت سوط القهر المعيشي الذي تقول الوزارة إياها انه سيحل ما إن تمسك بالمتسولة المغامرة. على نحو تراجيدي وتهكمي يبدو الأمر في الأوساط الشعبية التي تواري فقرها وضنكها ولا تدفع بأي من أفرادها إلى المجاهرة بالخروج على العرف الاجتماعي في الإقرار بالفقر. هناك حقيقة تقول إن الاعتراف بالفقر مايزال مرفوضا على المستوى الشعبي، ما يعني أن صمت الناس ومواراتهم للحاجة لا تعني رضاهم، أو موافقتهم على السياسات القائمة. وتعني كذلك أن هذا السلوك الجمعي يتصل بالثقافة المستقرة، التي تفضل الصمت على الجهر بالحاجة، لأن في ذلك منقصة كما يقول اللسان الشعبي. يتهكم الناس في القاع الاجتماعي، من حقيقة أن الحكومة لا تعي أو هي تتجاهل ان ثقافتهم تمنعهم من الانزلاق إلى الجهر بالفقر والذهاب إلى التسول. حتى إن أحد الخبراء الاجتماعيين الرسميين يؤكد انه لولا ثقافة رفض الاعتراف بالفقر لخرج الناس يتسولون بمئات الآلاف ولضاقت الشوارع بالمحتاجين الهائجين. لكن هذا الخبير يؤكد أن الحكومات محظية بثقافة نفي الفقر. الخبير ذاته يقول إن ما يعلن رسميا لا يمت بصلة لحقيقة نسب الفقر، إذ تجد الحكومة في ثقافة نفي الفقر، حليفا استراتيجيا يساعدها في إخفاء النسب الحقيقية لشرائح الفقر إن كانت محض شرائح محدودةّ. يتداوله الساسة المطلون على الواقع الحقيقي، الأسباب التي تدفع امرأة محترمة لابتكار طريقة جنونية في التسول، وهم يندهشون على قدرة الناس على الاحتمال. في السلوك الإنساني للفقراء وطرق تعاطيهم مع متغيرات الحياة، يظهر قدر كبير من المسؤولية التي تتجاوز نسب الإحساس بالمسؤولية عند الساسة المستلذين بصمت الناس وصبرهم. لكن الخبير، لا يتردد عن التصريح بأن تفاوت الوعي في الأوساط الشعبية الفقيرة، ينتج عادة ميولا للانزلاق إلى مهاو خطيرة، مثل انتشار المخدرات والجريمة والجنوح للرذيلة التي تعد الابن الشرعي للفقر. هذه المتسولة المغامرة ذهبت إلى مدى غير مسبوق في رفض، ولسان حالها يقول: أنا اعبر عن حالة صارخة تضم مئات الآلاف من الفقراء الصامتين الخجولين. أنا أرفض لعنة الصمت ومنطق مديح التمتع بنعمة شم الهواء، لكني اعترف بوصولي إلى العدم الذي لا يدع لي متسعا للصبر على الجوع والفاقة. هنا أنا أدين المجتمع والسياسات التي لا تدرك كم هي المخاطر التي يواريها الصمت على ندرة الخبز والاحتياجات الأساسية لاستمرار الوجود لإنسان لا يطلب إلا اقل القليل!
copy short url   نسخ
09/11/2018
1142