+ A
A -
محمد الشبراوي كاتب مصري
اختلق القصص الصحفية ليحفر اسمه بين الناجحين، وافتأت التقارير الإخبارية ليحافظ على هذا النجاح، مدفوعًا باستعجال وتيرة الشهرة أو خوفًا من الفشل؛ ليتردى فيه بقوة تفوق التوقع، ويذوق وبال أمره بمرارة شوهت تاريخه، وجعلت منه عبرة لمن يعتبر. يعض اليوم الصحفي الألماني، كلاس ريلوتوس، على أصبع الندم والحسرة، وقد ارتبط اسمه بالعار في عالم الصحافة، وسقط ووقع بعد أن طار وارتفع، كما سقط قبل أعوام جدار برلين.
اعتاد إضافة البهارات الأدبية للكتابة الصحفية، واستحضر شخصية كتاب الروايات البوليسية أمثال إدغار آلان بو، آرثر كونان دويل، أغاثا كريستي، داني براون، وغوشو أوياما.
خدع خبراء صحيفة ديل شبيغل، التي يتابع نسختها الإلكترونية ستة ملايين ونصف المليون قارئ، وحصد جائزتين من شبكة «سي إن إن» الأميركية سنة 2014، وحاز جائزة مراسل السنة في ألمانيا 2018، وتربع على عرش المراسلين، لم يخطر بباله أن يفقد المجد والشهرة، ولم يكن ليتراجع عن درب الاختلاق والتضليل المتعمّد؛ فأكاذيبه تنطلي على الناس بل ويحصد الجوائز.
ليس بالضرورة أن يكون الخبراء على صواب، وقديمًا دمرت فأرةٌ سد مأرب، وعلى هذا النسق سار «خوان مورينو»؛ فلم يطمئن لصحة ما يكتبه زميله ريلوتيوس، أخذ على نفسه عهدًا أن يمعن في الفحص ويتعمق في البحث، وتوصل إلى حقائق كشف بها زيف ريلوتيوس، ووضع الخبراء والصحيفة نفسها في موقف حرج. رحلة واحدة جمعتهما على الحدود الأميركية المكسيكية، وقع على إثرها ريلوتيوس في شر أعماله.
ولأن الهموم لا تأتي فرادى؛ فإن ريلوتيوس يواجه تهمة اختلاس تبرعات القراء، وواجه قائمة من اتهامات قضائية رفعته ضده دير شبيغل، وإن تكاثرت الظباء على خراشٍ؛ فقد تكاثرت القضايا والتهم على ريلوتيوس، وبات طريد العدالة والصحافة معاً.
إن سافرنا عبر الزمن؛ فإن آخرين سبقوا ريلوتيوس في هذا المضمار، منهم الصحفي السويسري توم كومر، وكان ينشر في ألمانيا وسويسرا لقاءات أجراها مع براد بيت، شارون ستون، مارك تايسون، وفي سنة 2000 تبين أنه اختلق حواراته الصحفية من مخيلته الواسعة.
والإيغال في التاريخ يقودنا إلى القرن الثامن عشر، وفي مدينة الضباب نلمح الشاعر الإنجليزي «توماس تشاترتون»، وقد ادعى العثور على مخطوطات نادرة في كنيسة بريستول، ونشر نتفًا منها في الصحف، وكما وقف مورينو بالمرصاد ريلوتيوس؛ فإن صحفيًا ماهرًا ترصد ادعاء تشاترتون، وأثار الشكوك حول صحة مخطوطاته، وتبخر حلم تشاترتون في الشهرة من هذا الطريق.
لا أعلم على وجه التحديد حكمك على ريلوتيوس وتشاترتون، ولكني أدعوك لأن تترك المثالية جانبًا وتعالج الأمر من زاويتهما، وعندها نفهم بعدًا جديدًا للمسألة، ولا ألتمس بذلك لهما عذرًا أو أشجعك على اقتفاء أثرهما، إنها فقط طريقة لرؤية أوسع لما جرى. رأى الجاحظ أن المجتمع مسؤول بدرجة كبيرة، وأنه كان يكتب فلا يقرأ له الناس؛ فإذا ادعى أن الكتاب لابن المقفع أو سهل بن هارون أو غيرهما ممن سبقوا، وجد إقبالاً على الكتاب، وسلسلة ممتدة من المديح والإعجاب.
وقبل الجاحظ كان أستاذه الأصمعي يدرس الشعر على خلف الأحمر، وخلف عميد كلية رواة الشعر في جامعة البصرة، وكان حماد الراوية نظيره في الكوفة، وبلغ من تمكن خلف وحماد أنهما اختلقا أشعارًا ونسباها للقدماء، وهو ما يُعرف في الأدب بالوضع والانتحال. كانا يهدفان إلى الحصول على عطايا الخلفاء، كما كان ريلوتيوس وتشاترتون يرميان إلى الشهرة والنجاح، لكن صنيعهما دفع المستشرقين وعلى رأسهم مارغيلوث للطعن في الشعر الجاهلي، كما طعن الكثيرون في مصداقية دير شبيغل، والحبل على الجرار.
copy short url   نسخ
16/01/2019
877