+ A
A -
بقلم: إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
يقع منزلنا في إحدى المدن الصغيرة الهادئة، لم يكن يميز مدينتا الصغيرة سوى أن كل من فيها يمتلك أجنحة، كلنا بلا استثناء، أجنحة مختلفة الألوان والأحجام.
كان جناحاي صغيرين وفي غاية النعومة، لونهما مميز يمتزج فيه اللون الأبيض الناصع بقليل من الحُمرة الخجولة وقليل من الأخضر المشرق، كنت أحبهما وأستمتع بمحاولة الطيران.
بهما، لكن على الرغم من تعدد محاولاتي للتحليق إلا إنني لم أنجح في ذلك لأن جناحي ما زالا في طور النمو ولم يشتدا بعد.
لم يكن الطيران والتحليق عالياً متاحاً للجميع، قلة من أفراد مدينتي يستطيعون الطيران، كنت أطمح أن أكون منهم.
من كان يستطيع الطيران كانت أجنحته قوية وفي غاية الضخامة، وعندما تتساقط عليها أشعة الشمس كانت تتلألأ بشكل مبهر وخاطف للأنفاس، بينما الآخرون غير القادرين على الطيران تذبل أجنحتهم بمرور الزمن وذلك لأنها لم تعد ذات فائدة، ويتغير لونها إلى اللون الرمادي الباهت.
كنت كلما كبرت بالعمر ازدادت أجنحتي قوة وجمالاً وكان الجميع يظهر تعجبه واستغرابه من ضخامة أجنحتي وألوانها الباهرة. حاولت الطيران عدة مرات، كنت أرتفع بضعة أقدام عن الأرض لكنني أعود لأقع من جديد.
ذات يوم بينما كنت أجتهد في محاولة الطيران تقدم مني رجل كبير في السن تظهر عليه علامات الوقار أخبرني أنه يرغب في مساعدتي وأنه يمتلك السر الذي ساعد الجميع على الطيران، سارعت إليه متلهفة لمعرفة هذا السر الذي أمضيت شطراً من عمري في البحث عنه.
أخبرني أنه يجب عليَّ أن أقص جزءا من أجنحتي لكي يصبح في مقدوري التحليق عالياً، فهو يرى أن أجنحتي ثقيلة وهذا السبب في أنني لا أستطيع الارتفاع كثيراً عن الأرض. صدقته ووثقت به، قصصت أجنحتي وأنا أتألم شعرت للحظات أنني أرتكب شيئا خاطئا لكنه كان يردد على مسمعي أنني أحسن صنعاً، ظل يخبرني أنني أسلك الطريق الصحيح، وقصصتها كما أخبرني، وإذا به يختفي فجأة واختفى معه سر الطيران، بحثت عنه كثيراً لكنني لم أجده.
عدت والدمع يغرق عيني أبكي بحرقة على أجنحتي التي قصصتها، عدت لأجد فتاة في مثل عمري تنتظرني عند باب المنزل، نظرت لي بحب واحتضنتني وأخبرتني بأنه لا بأس علي وأن الأمور ستكون على خير ما يرام وأنها ستساعدني على الطيران، فهي تشعر بمدى ألمي ومعاناتي وهي في مثل عمري ومرّت بما مرَرتُ به وتحلم بما أحلم به، شعرت بأن ألم قلبي قد أصبح أخف من ذي قبل نظرت في عينيها مطولاً وطلبت منها أن تساعدني فأنا أشعر بأنني كسرت من الداخل، قالت لي: استمعي جيداً إلىّ يا صغيرتي إن كنتِ تريدين الطيران يجب عليك أن تزيلي كل الريش الأبيض من جناحيك فهو ما يمنعك من التحليق. لا أعلم لم صدقتها وأزلت كل ريشة بيضاء في جناحي، وما إن انتهيت وعدت إليها مسرورة لأسألها هل يمكنني الآن الطيران فإذا بها تنظر لي بسخرية وتقول: يا صغيرة وهل هذان جناحان يمكنك التحليق بهما ؟ التفت بسرعة على جناحي فإذا بهما في حالة يرثى لها، كانا ينزفان بشدة ولم يتبقَ بهما سوى بضع حبات من الريش، شعرت بصدمة شديدة، كم كنت ساذجة عندما صدقتهما.
بكيت بحرقة أياما عديدة، مرت الأيام وبدأ حلمي بالطيران يحتضر ويوشك على الموت.
حلّ فصل الشتاء وتساقطت الأمطار بغزارة، وأصبح الطيران صعبا على الجميع بسبب سوء الأحوال الجوية. بينما كنت جالسة في شرفة المنزل وأراقب سقوط المطر وأراقب بضع قطرات من الدمع تسيل على وجنتي حزناً على حلمي الذي أراه ينازع في الرمق الأخير، رأيت عابر سبيل يقف عند باب المنزل، يطرق الباب بخفة كأنه يخجل من إزعاجنا.
فتحت له الباب كان غريباً عن مدينتنا، عرفت ذلك لأنه لم يكن لديه أجنحة مثلنا، تعجبت أحسست أن منظره غريب علي ! ابتسم لي ابتسامة حنونة وقال لي: لن يموت حلمك.. دهشت وسألته كيف عرفت ؟ من أخبرك عن حلمي ؟ قال لي: رأيته في عينيك.
استأذنني في الدخول وأذنت له، كنت أرمقه بنظرة متعجبة طوال الوقت، لم آلف رؤية أناس بلا أجنحة، التفت إلى قائلاً لا تعجبي أنا لا أمتلك أجنحة مثلكم، أنا أجنحتي في عقلي. ضحكت بتعجب تساءلت في ذهني ماذا يريد هذا الغريب ؟ هل يا ترى يريد القضاء على ما تبقى من أجنحتي مثل من سبقوه؟ فإذا به يطلق ضحكة عالية قال لي أنتِ من يحتاجني يا آنستي الصغيرة.
وقفت متحيرة قلت له كيف لك أن تقرأ ما يدور في ذهني ؟ فأخبرني أن هذا هو سره الذي لن يستطيع أن يطلعني عليه لكنه قدم لمساعدتي، وأنه يمتلك في حقيبته دواء سحريا يستطيع أن يجعلني قادرة على التحليق أعلى مما أتخيل. شعرت ببعض الخوف، أردت أن أصدقه لكنني لم أستطع، تجاربي السابقة مع الآخرين كانت تحول بيني وبين تصديقه. فكرت قليلاً، ما الذي سأخسره ؟ لقد فقدت جناحي ولا يوجد المزيد لفقده وحلمي أوشك على التلاشي لأجرب هذه المره قد يحالفني الحظ معه، صدقته ووثقت به، شيء ما في داخلي أخبرني أنه إنسان صادق.
أخرج من حقيبته زجاجة سوداء وفي داخلها مسحوق ذهبي وهاج، أخذ القليل منه وقام بنثره حولي أحسست بشعور غريب كأن شيئا ما يدغدغ عقلي، فجأة رأيتني أرتفع عالياً أمسك الغريب بيدي وأخرجني إلى حديقة المنزل حلقت عالياً في السماء تحت زخات المطر، ضحكت وضحكت بشدة كما لم أضحك في حياتي من قبل، كنت أضحك وأصرخ وأبكي في نفس الوقت، كان مزيجا من الشعور الرائع والمخيف.. سألته صارخة كيف ذلك ؟ قال لي: عندما يريد العقل شيئاً يستسلم الجسد مطيعاً له.
عدت إليه أشكره مسرورة وأخبره أنه أعاد لي القدرة على الحلم من جديد، وأسأله ما هو هذا السحر ؟! قال لي: إنه ليس سحراً إن الأحلام في العقول والقلوب، لا يمكن لأي كان انتزاعها منا.
إن انتزعوا أجنحتك فحلقي بعقلك، وإن قتلوا لكِ حلماً اهربي إلى عالم كبير من الأحلام حيث لا نهاية لأحلامك فيه (إنه سحر العقل).
copy short url   نسخ
10/02/2019
2777