+ A
A -
بقلم: د.عادل حلمي بدر كاتب مصري
إن الاعتماد على المنولوج في قصيدة الحداثة يتيح للمتلقي أن يسمع الصوت الخفي الذي يدور في أعماق الشاعر، وهذا نوع من التجسيد أو التجريد؛ فكأننا مع ذات أخرى غير ذات الشاعر تحاورنا من خلال هذا الصوت الحواري، وكأن الأفكار قد تلبست ثوب شخصية مفتعلة؛ لتعلن عن نفسها في بوح مقصود فنيا.
ومحاولة النص إيجاد شخصية مختلفة عن شخصية الشاعر، فلابد من أن تكون هذه الشخصية ذات إمكانية تعبيرية عن موقف أو تجربة أو ظاهرة ما، وذات إمكانية إيحائية، يمكن بها أن تستوعب ما يريد النص طرحه، وأن تتواصل وما يستجدُّ على صعيد الواقع. ولكن ذلك غير ممكن، إذا ما كان النص عبارة عن مقولة عقلية (هل كان قاب قوسين). إذ إن للمقولة نسقاً مغايراً لنسق التجربة التي يسعى شعر الحداثة إلى التعبير عنها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإذا كان النص صادراً من تعميم مجازي؛ فالأمر يحتاج إلى بحث ومدخل مختلف.
يقول الشاعر أحمد طه:
لأنك كنت تتسلق سريرك
كما تتسلق سطح قطار قديم
وتتركه بقفزة واحدة
كجندي من جنود المظلات
دون حتى أن تدعك عينيك
إذن
فقد كان لك وطن حقيقي
النص هنا يعتمد على الاستخدام الواضح لهذه التقنية إلى ميلاد أساليب جديدة في التعبير الدرامي أو التعبير الشعري؛ لكشف حالات النفس، وتداعيات الأفكار والعواطف، والدخول إلى عالم التصوير الفني المتلبس بصدق العواطف وتجليات الروح، فتظهر الأصوات المكبوتة(كما تتسلق سطح قطار قديم)، والأفكار الغريبة، والصراعات الداخلية، (فقد كان لك وطن حقيقي ) وينكشف عالم اللاوعي الخفي أمام المتلقي المتشوق إلى معرفة الباطن الخفي؛ مما يكشف عن حالة خفية تستدعي قراءة من نوع جديد، تستحضر معها ذلك العمق الوجداني، تتمظهر في تجليات المناجاة والتداعي والحوار الداخلي.
على الرغم أن نموذج الأنا يبتعد عن أن يكون نموذجاً قصصياً في شعر الحداثة، فإن هذا النموذج لا يمكن إغفاله لأنه يقدم بطريقة سردية، على الرغم من كونه يأتي خارج الحكاية من جهة، ولأن الشاعر من جهة أخرى يلحّ على ترسيخ هذا النموذج
يقول الشاعر رفعت سلام:
- أمشي على حدِّ انتصاف الليل
صاخباً،
جريئا
ولي قدمان تخترعان ما أشاءُ من دروب
تحفُران لي-في كلِّ خطوةٍ-
مفازَةً
أو هاوية
وتغمضان العين،
كي أهوى،
على حدِّ انتصاف الويل،
ضاحكاً،
مضيئَا
والنص أشبه بالسيرة ؛ فالضمير واضح ومهيمن، وهناك مادة تُروى محددة بزمن وأحداث، والسرد في الحاضر لا يعني أن زمن الحدث هو الحاضر، بل هو يتكلم بالحاضر عن الماضي؛ فهو أشبه بقصيدة السيرة، التي تلخص معاناة الشخصية، وتستوعب الخبرات السابقة، فهل نطلق عليه أسلوب الاعترافات والسيرة الذاتية؟!
فالضمير المعبر عن الشخصية «مشارك من داخل الحدث الفني، وإنه يحدد من الداخل شكل العمل الفني.. ولا يختلط..بما يُسمى الجمهور الذي هو في خارج العمل» فالغنائية ممزوجة بالسرد، وإلى جانب مزج هذه الغنائية بالسرد كوسيلة أداء تقوم على الالتحام والوحدة والتآلف بين الأجزاء المبعثرة، والنص أخذ يعمق ما يمكن تسميته بالغنائية الشخصية، لكن هذه الغنائية تتجاوز حدود الغنائية المحض «ليعبر بذاتيته عن قلق وتوتر حادين تجاه العالم»
يقول الشاعر وليد منير:
عيناه لوزتان
وذيله الأكثُّ يلتوي كأنه ضفيرةْ
قلت له: يا ماكراً
كيف استعرت من نساء القلب كيدهنَّ
واستعرن منك ذلك الفراءْ ؟
فضحك الثعلب من سؤالي
وظنه دعابةْ
لكنه حين مضى
خلَّف في أناملي إجابةْ
فعندما لمستُ تحت مطر الشتاء معطف الفتاةْ
قالت: أليس ناعماً ؟
قلت: استردَّ ثعلب الأميرةْ
رعشتها من قلبها
لما حباها لذة الدماءْ
وهذه الحرارة التي تضجُّ في عروقها
فالنص يخلق شخصيته(شخصية الحيوان: الثعلب) ورموزه وأقنعته ؛ ليقص من خلالها، بما يعادل الحالة التي يريد التعبير عنها، لا بما يساويها مباشرة أو يفسرها معنويا.
وقد أفاد الشاعر من المجال الذي وفرته له حركة الحداثة الشعرية فأخذ يوظف الفنون الأخرى – ومنها الفنون السردية – في شعره حتى أصبحت القصيدة الحديثة «جنسا أدبيا تتماهى في دلاله كثيرا الأجناس الأدبية المتعارف عليها»، وتعد الحكاية واحدة من هذه الفنون التي أثرت القصيدة العربية الحديثة بمعطيات جديدة وأكسبتها بعدا موضوعيا وأتاحت المجال أمام الشاعر الحديث للتعبير عن أفكاره وعواطفه بصورة مشوقة بعيدة عن التقريرية والمباشرة فالقصة في القصيدة إنما «تستخدم على إنها وسيلة تعبيرية درامية، لا على إنها قصة لها طرافتها وأهميتها في ذاتها»،
لكن في بعض الأحيان تبدو على مستوى الطرفة.
يقول الشاعر وليد منير:
للدُميري
قصةٌ أو طُرفةٌ
تخطف أهدابك أوترسم أطراف البنانْ
قال: لما أُزلفَت جنة عدن للنبيّ
لمحت عيناه ذئباً نائماً
قال: أفي الجنة ذئبْ ؟
قيل: هذا أكل ابن الشرطيّْ
ولو أن الشرطِيّْ
كان في حظِّ ابنه
أبصرْتَ هذا الذئبَ في أفياء علِّيِّينَ
والآنَ..
وقد مات «الدُمَيْري»
واختفى أحفاده
هل تجد الشرطة من تسأله
أين اختفى القاتلُ غيري
النص على لسان الحيوان، وهو يعبر عن المشهد العجائبي، وهنا سيتخذ دورا آخر؛ فالنص انحراف تعبيري يتيح للشاعر أن يعبر عن أفكاره الداخلية وعواطفه بطريقة غير مباشرة، تعتمد على التكثيف والتركيب والمجابهة الصوتية مع المتلقي.
copy short url   نسخ
10/02/2019
1553