+ A
A -
سهام جاسم
لا تستنكر كثرة الروائيين في هذه الفترة، كما لا تستنكر كثرة الشعراء، بل دع استنكارك يكون حينما يأتي زمنٌ لا راوٍ فيه ولا ثمة شاعر!
وقد تستغرب من عدم وجود تلك الموهبة واضمحلالها، وتلك الجودة التي تنتظرها من أبناء عصرك المتفوق علمياً وتقنياً..
ألم تتساءل يوماً لماذا لم يستطعْ أحدٌ أَنْ يتجاوزَ أعلام الشعر العربي الجاهلي الذين تترددُ أسماؤهم في كل عصر بثباتٍ وإجماعٍ على العبقرية الشعرية الفذة، أو يحلّ محل الشواهد الشعرية القديمة التي أشبعناها تكراراً كلما أردنا دليلاً، على ما نقول، أو قولاً قوياً مُسانداً للمعنى الذي نومئُ إليه، أو حكمةٍ أو مثلٍ نتمثله، أولئك الذين لم يعرفوا المدارس، ولم يجلسوا على مقاعد الجامعات، ولم تُعقد لهم الدورات التدريبية على يد أساتذة أكفاء، ليتعلموا فنون الأدب، ليتعلموا كيف يكتبون فناً أدبياً ما، وكيف تكون البدايات لنصٍ أدبيٍ ما..
أو ليتعلموا حتى كيف يكونُ الإحساس والشعور..
مهلاً وهل «الإحساس والشعور يُعَلَم ؟! كذلك هي الفنونُ الأدبية لا تُعلَم، لأنّها نظرةٌ وتجربةٌ خاصةٌ لأحدنا وانعكاسٌ لوجوه الحياة باختلافاتها في مرآة روحه، وقراءة.. قراءة كُتبٍ وقراءةُ حياةٍ في آنٍ واحد، لم تكن قط افتعالاً، أو ادعاء، أو تقمص رديْ لشخصيةٍ ما..
يقولُ الأديب والفيلسوف أبو حيّان التوحيدي في مقدمة كتابه «البصائرُ والذخائر»: «ولقد أنشأتُ هذا الكتاب على رواية ما حصَّلت، لأنه ثمرة العمر، وزبدة الأيام، ووديعة التجارب، ولا عليك أَنْ تستقصيَ النظر في جميعِ ما حوى هذا الكتاب لأنّه كبستانٍ يجمعُ ألوانَ الزهر، وكبحرٍ يضمُّ أصناف الدُّرر، وكالدهرِ الذي يأتي بعجائبِ العِبر».
هذا هو وصف التوحيدي لكتابه أحد أعلام القرن الرابع الهجري.. أمعن النظر واستغرق في تأملك لهذه العبارات: «لأنّه ثمرة العمر، وزبدة الأيام، ووديعةُ التجارب»..
إذن هي فنونٌ تعيشُ فينا، والكتابة، أعني كتابتها، ما هي إلا تجسيدٌ لذلك العالم الذي يموجُ في ذهن أحدنا، ولتلك المشاعر المضطربة في قلب أحدهم.
والحديث العذب، كما تسمعه من أحدهم فإنّهُ يزدادُ عذوبةً إذا قرأته ونظرت في رسم كلماته، وتأملتها حتى تغدو رسماً دارساً. ولو تأملت قليلاً في هذه الحياة ستجدُ أنّ هنالك من يعيشها على هيئة قصصٍ قصيرة، تعنيه منها تلك الأحداث الصغيرة البسيطة، التي تدور حوله وتلك الشخصيات المعدودة المحدودة بعينها.
ومنَّا من يحيا كُلَّ تلك القصص القصيرة ويربط بينها بنظرته التحليلية التفكيكية لكل ما يدورُ حوله..
هنالك من يعيش رواية الحياة لتغدو حياته متشعبة تموجُ بالبشر وبحكاياهم التي يعيشها على أنّها حكايته هو، فالمشهد الواحد لديه يشملُ ويضمُ الحياةَ بأكملها.
ومنَّا من لا تكف عذوبة النفس المُنسابة لديه عن الحديث عن رقيق الإحساس ومرهف الشعور، وعن الغرق والذوبان في عالم الذات وعمق العاطفة الذي يجذبه بألقه ويبعده عن جمود الواقع، مُيمماً نحو لطيف الشعور..
ذلك الذي يُولي الإنسان بداخله أهميةً قصوى..
أرأيت كيف كان مجتمعنا العربي في جاهليته يحفلُ بالأدب ويعبأ به، بل ويدرك أثره الجميل ووقع لحنه في الحياة..
هو وجهٌ آخر للحياة، ونظرةٌ من زاوية خاصة للمشهد فيها..
ألا ترى أَنَّ سحر الأحاديث وعذوبتها ينعكسُ على القلم؟
أغلبُ من قرأت لهم من الأدباء والشعراء يمتلكون تلك القُدرة الحكائية والسردية العالية التي تجذبك مرغماً..
لتتساءل، هل هم الآن يكتبون أم يتحدثون..؟
فتلقائية الحديث المسترسل الذي لا يُمل يُعدُّ إبداعاً كالكتابةِ نفسها تماماً..
أتدري أنّ عذبَ الحديث وحُلوه لا يأتي إلا من نفسٍ صادقةٍ عذبة وكذلك هي الكتابة..
كلمة أخيرة:
أتركها للشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه، يقول:
نحنُ الهَمَساتُ التي تَسْبِقُ الصَمْتَ
نَحنُ المُروجُ تُبَشِرُ بالبستان
copy short url   نسخ
18/03/2019
3938