+ A
A -
منى بابتي
دخلت مكتبي، وقفت أمامي، وأمسكت قلمي، ثم نظرت في عيوني مليًا، وقالت: «أتجرئين أن تدوني قسوة زمني، ومرارة هذه الحياة، دون أن تتلاعبي بالكلمات وتتهربي من سوء ما عشته في تلك اللحظات»، أمسكتُ قلمي وقلت: «تكلمي فما من شيء يجبرني على الصمت، لو كانت كلماتك حقًا تحمل وجعًا لا يجوز أن يحياه أي إنسان».
وبدأت صديقتي، وبدأ القلم يرتجف بين أصابعي لا يرغب بالمتابعة ولا يجرؤ على التوقف، ولكن دموعها أجبرتني أن أسجل الأحداث كما جرت دون زيادة أو نقصان.
قالت صديقتي: «عفوًا سادتي.. ثوبي لا يشبهني، فأنا ما زلت على قيد الحياة.. وثوبي قد بلغ مرحلة الاحتضار، ولكنني لم أهتم فثوبي ليس أنا، فلقد أجبرت على ارتدائه حينما غدر بي الزمان،، عفوًا سادتي لم أكن أحملق في وجوهكم، ونوع الرداء، ولا يهمني نوع النظارات أو لون الحذاء، كنت أنظر إليكم فقط، إلى عيونكم وأبحث عن قيمتي فيها كإنسان،، فهوية الإنسان الحقيقية لا نجدها في حداثة جواله، أو في غلاء ثمن الأثواب.
اعذروني سادتي.. يوم جلست أمامكم ونسيت أننا نُقيم بلون الشعر ونوع الثياب، حاولت لملمة أجزائي، حاولت عدم البكاء، ليس لأني مؤمنة بأنني أقل قدرًا بردائي وأنني لا أليق بالمكان، ولكن لأنني جلست أمامكم وحوكمت بأقسى النظرات، وأمر الكلمات
طأطأت رأسي سادتي، خجلت، فهذا يا سادتي ما أملكه من ثياب، لقد خانتني أيامي وفرغت من يدي الريالات، ونسيت أن أخبركم سادتي أن أساوري الذهبية قد تساقطت من يدي قطعة قطعة لأطعم تلك الأفواه، لملمت أشلاء تنورتي، تلعثمت في فمي الكلمات، اهتزت أوصالي، ضعفت، فما أقسى أن يقاس فكرك ببضعة أمتار من قماش، جلت في عيونهم بحثًا عن مجد سابق كنت أحياه، حاولت أن أخبرهم أنني كنت أشبههم، أرتدي ملابسهم، وأتكلم لغتهم، ولكنني لم أكن أقيس البشر بأثوابهم أو بتلك الترهات، شعرت ببرد قسوة أحكامهم يعتريني، وغادرت المكان، تساقطت دموعي وأنا ما زلت أحاول الهروب، ولكنني بثوبي الذي آلمني أزلت آثار الدموع، الثوب الذي أهانني أمامهم، هو نفسه الذي أزال بصمات كلماتهم عن وجهي، وهربت إلى مكان بعيد عن كل البشر، هناك وقفت أمام البحر، تأملت وجهي، لمست ثوبي، ورفعت رأسي إلى السماء.. وأخبرت ربي أنني أحتاج ثوبًا جديدًا لأخبرهم أنني ما زلت على قيد الحياة.
ومضت صديقتي وتوقف قلمي عن التدوين..
وعند المساء أخبرتني صديقتي أنها ارتدت ثوبها القديم.. وأرخت شعرها البسيط ليلامس ذلك القماش الذي يميل إلى الرحيل، ووقفت أمام مرآتها، ثم أرسلت لي صورتها عبر جوالها، وكتبت، ما زلت كما أنا، لم تغيرني أثوابي القديمة ولن أشتري ثوبًا جديدًا، فإن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا ولكن إلى قلوبنا، لربما كان ثوبي قد شارف على الموت، ولكنني ما زلت على قيد الحياة، فعفوًا سادتي، ثوبي ليس أنا، والثوب لا يمثل إنسانًا.
copy short url   نسخ
23/03/2019
783