+ A
A -
بقلم: نــــــزار عـــابـديـن كاتب وإعلامي سوري
• من أغنيات الفنان الراحل طلال مداح التي لا تنسى «كم تذكرت سويعات الأصيل» وقد حققت شهرة كبيرة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وما زال عشاق الغناء الأصيل يتذكرونها. والأغنية مزيج من الفصحى والعامية، وهي بالأصح فصحى تغنى بطريقة عامية، وقد فوجئت بأنها من شعر شاعرة سعودية كبيرة هي سلطانة عبد العزيز أحمد السديري، ومن ألحان ملحن اسمه عبد الله محمد، ولم أجد عنه الكثير من المعلومات سوى أنه لحن لطلال مداح أكثر من أغنية في بداياته.
انطلقت الأغنية عام 1959، وتقول الشاعرة في حوار معها نشر في 30/‏10/‏2018 إنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين كتبت هذه القصيدة، ولا تذكر إن كانت قد كتبتها في ذلك العام أم قبله، وما يهمنا منها الآن كلماتها:
كم تذكرتُ سويعات الأصيلْ وصدى الهمساتِ ما بين النخيلْ
أنت في حبك.. وانا في حبي وأرى الذكرى دواء للعليلْ
فاتقِ الله.. فاتقِ الله.. فاتقِ الله في حبي يا حبيبي
***
أنا ألقاك صباحاً ومساءْ في خيالي أنت يا أحلى رجاءْ
انت لي حلم ونور وهناءْ فمتى يقضي بلقياك القضاءْ
لست أدري.. لست أدري لست أدري بحبي يا حبيبي
***
وأخيــراً ليـــس لي غير الوداعْ همســة ظمأى علـى جمرِ التياعْ
لم أجد يا حلو في كل البقاع لوعة أعنف من وقت الوداعْ
فوداعاً.. ووداعاً.. ووداعاً يا حبيبي
كتبت الشاعرة سلطانة السديري الشعر الفصيح وشعر العامية (النبطي) ولكن «سويعات الأصيل» من الشعر الفصيح، وإن ظنها معظم الناس من شعر العامية، إنها من بحر الرمل، وهي دليل على أن غناء الشعر الفصيح بطريقة أداء الكلمات الخفيفة من شعر العامية أمر ممكن ويطرب، وقد حافظ طلال مداح على الشعر لولا هنات هينات، مثلاً تقول الشاعرة «لم أجد يا حلوُ» وغناها المطرب «يا حلوِ» وأربكته كلمة «أعنف» أما في مطلع القصيدة فتقول «أنت في حبك.. وانا في حبي» واضطرت إلى حذف الهمزة من «وأنا» الثانية ليستقيم الوزن فصارت «ونا في حبي».
• عثر الفنان كاظم الساهر على كنز من كلمات الأغاني في دواوين الشاعر الراحل نزار قباني، وكانت الفاتحة أغنية «إني خيرتك فاختاري»، التي ظهرت عام 1994، أي قبل وفاة الشاعر بأربع سنين، هل استأذن الفنان شاعر القصيدة؟ وكرت السبحة، فلحن الساهر وغنى أكثر من 33 قصيدة من شعر نزار قباني، فهل استأذن ورثته وأعطاهم حقهم؟ الأرجح أنه فعل، ولولا هذا لسمعنا عن دعاوى قضائية.
ليس هذا ما يعنينا الآن، إنما تعنينا كلمات القصيدة الأغنية، ومن المعروف أن كبار الملحنين والمغنين يغيرون بعض الكلمات، فمثلاً في قصيدة «قارئة الفنجان» يقول الشاعر «يا ولدي قد مات شهيداً، من مات على دين المحبوب» لكن الملحن محمد الموجي والمغني عبد الحليم حافظ استأذنا الشاعر في تغيير بعض الكلمات، ووافق الشاعر، وغير بنفسه فصارت الجملة «من مات فداءً للمحبوب» وفي قصيدة الأطلال يقول الشاعر إبراهيم ناجي في ختامها «لا تقل شئنا فإن الله شاء» وكرهت أم كلثوم إيراد لفظ الجلالة، وعاونها مستشارها الشعري أحمد رامي، فصارت الجملة «فإن الحظ شاء»، ونعود إلى «إني خيرتك» إذ يقول الشاعر: (إني خيرتُكِ فاختاري، ما بين الموتِ على صدري، أو فوقَ دفاترِ أشعاري) وكان نزار قباني دائماً حاداً في استخدام الكلمات، لكن على المغني أن يبحث عن أرق الكلمات، وليس ذكر الموت مرتين في مطلع الأغنية من الأمور الرقيقة، وكان بإمكان الساهر أن يستشير شاعره المفضل كريم العراقي، ويطلب من نزار قباني نفسه وضع كلمة أخرى بدلاً من كلمة الموت، ربما اقترح كلمة «النوم» وهي تناسب أجواء نزار قباني.
• نزار قباني شاعر كبير، ما في هذا شك، لكنه لم يدرس اللغة والأدب دراسة أكاديمية، بل درس في الجامعة الحقوق، ولا شك في أنه قرأ الشعر العربي، فتكونت عنده ذخيرة ساعدت في تفجر موهبته الشعرية، فأعطانا أجمل القصائد، ولهذا تكثر في أشعاره الأخطاء النحوية. من قصائد نزار المليئة بالصور قصيدة سماها «رسالة من امرأة حاقدة» ويكشف إيراد صفة «حاقدة» موقفه من المرأة، لأن القصيدة رسالة من امرأة هجرها حبيبها واستبدل بها امرأة ثانية، والقصيدة تعنيف للرجل، فهل تكون حاقدة؟
ولحن محمد سلطان القصيدة، وغنتها زوجته يومها فايزة أحمد، ولا علاقة لهذا اللحن بتلحين القصائد، وليس هذا حديثنا اليوم، لكن في القصيدة أخطاءً نحوية، واتكاءً كثيراً على العامية، منها «فجميع ما وشوشتني» فليس في العربية فعل «وشوش» بمعنى همس، ومن أخطائها النحوية قوله: أخذت هنالك مقعدي … في الركن … ذات المقـعد … وأراك تمنحها يداً … مثلوجةً … ذات اليد … وليست «ذات» من أدوات التوكيد، وحتى لو استبدلنا بها «نفس» مثلاً، لظلت الجملة خطأً، لأن المؤكد (بكسر الكاف) يأتي بعد المؤكد (بفتح الكاف) أما «ذات» فتعني الملكية مثل: ذات الشعر الأحمر.
• من المواويل الشعبية المشهورة في سورية موال يقول «لاقصد سرايا حلب/‏ واقعد بجنب الباب، واللي ما يحب النسا/‏ كذاب ابن كذاب» ويغنى هذا الموال بتغييرات طفيفة في كلمات البيت الأول، مثل: واقعد ورا الباب، ومن الواضح أن المهم في الموال بيته الثاني، أما الأول فقد وضع كتكملة. والسرايا أو السراي كلمة تركية تعني في الأصل القصر، فيقال: سراي فلان، أي بيته الكبير الذي يشبه القصر، ثم صارت تطلق على مقر الحكومة، لأن مقر الحكومة يكون أكبر البيوت، وأذكر من طفولتي أننا كنا نقول «السرايا».
«واللي ما يحب النسا» النسا اختصار لكلمة النساء، وحذف الهمزة من أواخر بعض الكلمات منتشر بكثرة عند الشعراء العرب: الوفا، الهوا، العلا، الشفا.. وهكذا، قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
فلا رحِم الله خائنة النِسا ويحرق كل الخائنات بناره
وقال شاعر وقته ابن نباتة المصري، وقد أشار إلى سورة النساء:
فلو بكت سور القرآن من أسف لانهل جفن النسا مما تكاتمه
وقال ابن قيم الجوزية:
والله قد جعل البنين مع النسا من أعظم الشهوات في القرآن
ويقول الموال: واللي ما يحب النسا/‏ كذاب ابن كذاب، وهو يقصد: من يدعي أنه لا يحب النساء، يستند هنا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبب إلىّ من دنياكم الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة» هذا رسول الله يعلن أنه يحب الطيب والنساء، ولكن ما تقر به عينه ويهنأ به هو الصلاة، فلماذا يبتعد أحدهم عن السنة النبوية الشريفة؟ أليس رسول الله قدوتنا ومعلمنا؟
copy short url   نسخ
26/03/2019
3789