+ A
A -
هو فيلسوف يوناني من «أفسوس» بـ«إيونية» يتلخص مذهبه الفلسفي في قوله: (الأشياء تتغيّرُ دائماً)..
«لولا التغَيُّر لم يكن شيء، فالاستقرارُ موتٌ وعدم، والتَغيُّرُ صراعٌ بين الأضداد ليحلَّ بعضها محل بعض، والوجودُ موتٌ يتلاشى، والموتُ وجودٌ يزول..» كان ذلك ما أوضحه د. فيصل عباس في الموسوعة الفلسفية حول تلك المقولة..
يقول د. عبدالرحمن بدوي: «كان على كلِّ فيلسوفٍ أتى بعد هيراقليطس أن يحسبَ حساباً للتغير الدائم للأشياء إلى جانب فكرة الثبات الدائم»..
هذا الفيلسوف الذي اتسمَ أسلوبه بالغموضِ وعاش في عصر ما قبل سقراط، يقول عنه أفلوطين: «كان يتكلمُ بالتشبيهات، ولا يُعنى بإيضاح مقصوده، ربما لأنَّه كان من رأيه أنَّ علينا أنْ نبحثَ في داخل نفوسنا كما بحث هو بنجاح»..
لماذا الوقوف عند هيراقليطس..؟
«الأشياءُ تتغيَّرُ دائماً» ألم نزلْ نراها كذلك بعد مئات السنين؟
ألا ترى أنَّ مثل هذه العبارة تعيشُ في وعي كُلِّ إنسانٍ منّا، إذ صار لا بُدّ أن يُقدم أحدنا اعترافاً صريحاً لبعض البشر أنّهم عاشوا في قلب الزمن حقاً وأحسنوا تأمل كُلَّ أنماط الحياة التي يعرضها أكثر منّا نحن إذ اقتصرت عنايتنا فقط بإحصائه، أولئك الذين تحررت عقولهم من المكان، لتُسافرَ كلماتهم وأقوالهم عبر الزمن، لأنَّهم فكروا، وسلكوا درباً آخر أكثر صدقاً وعُمقاً وجلاءً في التفكير والتأمل، وحين قالوا، لم يُبعثروا القولَ جِزافاً..
ولنقرأ معاً شيئاً من مقولات هيراقليطس.. يقول:
«آه من أولئك الذين لا يعرفون كيف ينصتون أو كيف يتحدثون»*
تأمل مقولته تلك ولاحظ أنّه ابتدأها بـ«آه»، فالحياةُ مستمرةٌ في تلك المواجهات الكلامية المُرغمة وغير المجدية مع أولئك الذين لم يتعلموا حُسن الإنصات للآخر، ولا لباقة الحديث، والاستمرار في محاولة جعلهم يشعرون بالحال الرث الرديء الذي يبدون عليه أمام الآخرين وإنَّ ما يقومون به لا يُعَدُّ انتصاراً مُطلقاً ولا حتى مبارزةً كلاميةً ناجحة قد تسحق الآخر أو تُثير الإعجاب حولهم كما يظنون سيُوقعك حتماً في شِراك ألسنتهم...
فمن لا يُتقن الإنصات للآخر حتماً لن يعرفَ كيف يتجاذب أطراف الحديث بأسلوب يدعوهُ للمواصلة، إنَّ الحديث مع أحدهم، ليس مجرد تواصل بالصوت وحسب، بل هو تواصلٌ بالفكر والعاطفة، ذلك التواصل الذي يجعل لك أثراً طيّباً، أظنُّه أمراً يستحقُ منك العناية كلِّها، أليس كذلك..؟
بعضهم يذكرني بمواء القطط حين يتحدث إذ تجده لايتريث مُطلقاً ولا يُمهل مُحدثه ويُطلق حديثه المُسترسِل بلا فواصل ليتزامنَ مع حديث الآخر، ليبدو لك المشهدُ شبيهاً بمواء القطط إذا ما واجهت قطةٌ أخرى في أحد الأحياء، حيثُ يبدأُ المواءُ هادئاً ثمَّ تعلو نبرته تعلو لتعُمَّ كل الأرجاء.. نصيحتي التي أقدمها لك لتُغنيكَ عن المشاهدة والمشاركة في كلِّ ذلك هي أنْ تفرَّ بروحك العزيزة..!
يُقال إنَّ هذا الفيلسوف عُرِفَ بالفيلسوف الباكي، ذلك على الرغم من أنَّه من عائلة ارستقراطية، لا أدري ما الذي رآهُ وتأمله بفلسفته العميقة وأحزنه لكن ذلك مما شاع في العصر القديم فقد أضحكت حماقة الإنسان ديمقريطس فسُميَّ بالفيلسوف الضاحك بينما أبكت هيراقليطس فسُميَّ بالفيلسوف الباكي، لكنني في الحقيقة لا أدري لماذا نظنُّ أنَّ البشرَ لا يبكون ماداموا أرستقراطيين..!
«تنبحُ الكلابُ على كُلِّ من لاتتبينه»*
تلك المقولة تُمَثلُ حقيقةً دامغة، وفي أغلب المقولات الكلاب تنبح، تبدأُ بإحداث الضجيج حول ماتجهل، وبالهجوم، لا تتمهل حتى تتبيَّن، تذكرني بالمقولة المُستهلكة عن تلك الكلاب التي تنبح للقافلة وهي تمضي، الزمن يمضي يجمعُ قرونه، وتلك هي حرفتهم، وتلك هي سمتهم عند كلِّ ذي حكمة..
«أقصر طريق للشهرة أنْ يُصبح الإنسان خَيِّراً»*
في مقولته تلك يبيِّن طريق الشهرة الذي لاتخسر تجارته مُطلقاً ولا تكسد بضاعته، لكن، هُنالك من يأبى ذلك، هُنالك من يستميت ليكونَ مشهوراً بأيّ صفةٍ كانت وبأيّ مهارة، حتى ولو لم يكن يفقهُ من أمرها شيئاً، وأنا أعنيه بالحديث هنا ذلك المُرائي، مارأيك بالطريق القصير الذي عَبَّدَهُ أمامك هيراقليطس منذُ الأزل، تُرى ألا يصلُح لك..؟!
كلمـة أخـيرة:
هنالك من تتبقى منهُ بضعُ كلماتٍ فقط وتظلُ تُذكَرُ بل ويظلُ يُذْكَرُ بها عبر الأزمنة، وهُنالك من ملأ صحائفه بالثرثرة، لا السامعُ وعى، ولا الزمنُ حَفِظ..!ضفــــــــــــــافسهـام جاسـم
copy short url   نسخ
16/04/2019
1410