+ A
A -
أسندت رأسي إلى مخدة صغيرة أحضرتها ابنتي من لبنان، كانت أمي قد طرزتها بيديها الحنونتين، وغرقت يا أمي في رائحة زهورك الفواحة التي ذبلت مع سنين عمري، ولكنها مازالت عابقة بأمومتك، فكل شيء تزول رائحته مع مغيب العمر إلا رائحة زهور الأم تظل عابقة في الأنفاس، وتذكرت كل محطات حياتي، تذكرت محطتي الأولى حينما كنت لا أتجاوز السنة السابعة حين وقفت أمامك تتساقط دموعي محاولة أن أخبئ بيدي هزيمتي الأولى التي نقشتها رفيقتي صفعة مؤلمة على وجهي، وهناك يا أمي في غرفتك الدافئة بحنانك أدفأت برودة الخوف في قلبي، ورفعت لي رأسي وأخبرتني أن الدنيا محطات لا تنتهي، وهمست في أذني الصغيرة يومها: «إن انتهت المحطة الأولى لا تنسي أن تشتري تذكرة جديدة لمحطة جديدة في حياتك، فالحياة محطات لا تنتهي ولكن إياك أن تنسي تذكرتك القادمة»، وتوالت المحطات يا أمي، وعدت إليك ووقفت أمامك بشعري الناعم المنسدل على وجهي وجسمي الهزيل وزهوري الثامنة عشرة المائلة إلى الذبول وحسرتي المرسومة على وجهي فالحياة كانت قد جعلتني أتجرع أولى كؤوس سمها المرير حين تحطمت أحلامي الصغيرة عند الخطوة الأولى لتحقيق أحلامي واكتشفت أن الأحلام تبقى مجرد أحلام، فضممتني مجددًا إلى صدرك وهمست قائلة: الحياة محطات، فالوصول إلى نهاية المحطة، يعني أنه يجب أن تشتري تذكرة جديدة لمحطتك التالية ومضيت يا أمي لأعود إليك، امرأة تضم إلى صدرها طفلتها الصغيرة وتبكي لوعة حياة أرهقتها، وضممتني مجددًا إلى صدرك يا أمي وأنت تنظرين إلى الأفق، ولم تنسي في هذه المرة أن تذكريني بتذكرتي الجديدة لمحطة جديدة، ومضيت بعيدًا عنك يا أمي، لم أعد أتمكن من العودة إلى حضنك الدافئ ولكنني عند كل نهاية محطة كنت أحتفظ بتذكرة جديدة لأنطلق إلى محطتي القادمة، وتابعت يا أمي حياتي واستخدمت كل التذاكر التي بجعبتي، تذوقت يا أمي كل الكؤوس ولكنني لم أتوقف عند نهاية المحطات، بل كنت أضع صورتك أمام عيوني وأتابع وأنا أنظر إلى صورتك، لأخبرك أن آخر تذكرة مازالت في جعبتي.
وشاء القدر أن تختلف الأدوار لأجد نفسي اليوم أمام ابنتي، تدخل غرفتي وشعرها الأسود الطويل يخبئ وجهها الذي يودع الطفولة قسرًا، وقفت أمامي، وأخبرتني أنها تجرعت أولى كؤوس الحياة المريرة، فضممتها إلى صدري وهمست في أذنها: الحياة محطات لا ولن تنتهي، فنهاية محطة في حياتنا لا تعني أننا وصلنا إلى النهاية، فالمحطات تتوالى وما عليك إلا الاحتفاظ بتذكرة جديدة لمحطة جديدة، ربما تعبنا من كثرة المحطات، وربما مللنا من طول المسافات، ولكن هذه هي الحياة... محطة نصل نهايتها لننطلق لمحطات جيدة... فلا تمل أبدا من صافرة النهاية... ولكن احتفظ دائماً بتذكرة جديدة وتابع الحياة.منى بابتي
copy short url   نسخ
20/04/2019
1467