+ A
A -
يمكن اعتبار الزمن العنصر الأساسي المميز للنصوص الحكائية بشكل عام، لا باعتبارها الشكل التعبيري القائم على سرد أحداث تقع في الزمن فقط، ولا لأنها كذلك فعل تلفظي يخضع الأحداث والوقائع المروية لتوال زمني، وإنما لكونها بالإضافة لهذا وذاك تداخلا وتفاعلا بين مستويات زمنية متعددة ومختلفة: «منها ماهو خارجي»externe«ومنها ما هو داخلي»interne«نصي محض».
والزمن في الأدب هو «الزمن الإنساني»...إنه وعينا للزمن كجزء من الخلفية الغامضة للخبرة، أو كما يدخل الزمن في نسيج الحياة الإنسانية، والبحث عن معناه، إذن لا يحمل إلا ضمن نطاق عالم الخبرة هذا، أو ضمن نطاق حياة إنسانية تعتبر حصيلة هذه الخبرات، وتعريف الزمن هنا هو خاص، شخصي، ذاتي، أو كما يقال غالبا-نفسي، وتعني هذه الألفاظ أننا نفكر بالزمن الذي نخبره بصورة حضورية مباشرة أما مفهوم الزمن الآخر فهو التركيب الموضوعي للعلاقة الزمنية في علم الفيزياء.
والزمن الحكائي يعرفه جيرالد برنس بأنه «الزمان أو الأزمنة التي تحدث في أثنائها المواقف والوقائع المقدمة (زمن القصة وزمن المسرود وزمن الحكي ) وتمثيلها (زمن الخطاب وزمن السرد والزمن الروائي)» فالزمن تقنية سردية يستخدمها النص في تنظيم عالمه، وضبط العلاقات بين مفرداته.
والشعر هو فن الرسم بالزمن، وفن استقبال حركية الزمن، فهذا يعني بقسط من معناه إبراز حالة التناقض والتنافر أو التجانس بين العلاقات الحضورية والغيابية وإبراز حالة الاشتباك الفضائي (الفراغي) بينهما. وذلك حسب الارتسام الخاص الذي تعنيه العلاقات الحضورية في زمنية النص بارتكازها على شبكة الغيابية. وفي النص الشعري تحديداً لا يمكن أن يعد هذا التقسيم مطلقاً، فثمة عناصر غائبة من النص وهي على قدر كبير من الحضور في الذاكرة الجماعية لقراء عصرٍ معين إلى درجة أننا نجد أنفسنا عملياً إزاء علاقات حضورية؛ بحيث يأخذ الزمن التاريخي، أو الثقافي في المنظومة المعرفية حيّزاً فراغياً أوسع بكثير مما يمكن أن يشكله الزمن الاجتماعي في حضوره التصاعدي. ويبدو التقاط التناقض الجدلي، من مهمة النص الجمالية باستخدام التقابل الفني الذي يدفع باتجاه تجميع أولي للعناصر الفارغة في تكوين النص. باعتبار العلاقات الغيابية علاقات معنى وترميز، والعلاقات الحضورية فهي علاقات تشكيل وبناء ويمكننا مقاطعة هذا التكوين مع أزمنة النص أو أزمنة الموضوع الذي يناقشه النص، فتبدو العلاقات الغيابية أكثر تقاطعاً مع أزمنة موضوع النص، في حين تتقاطع الحضورية مع أزمنة النص. ويبقى هذا الفصل تعسفياً، لأن كل بنية نصيّة تتألف من تواشج الحضورية والغيابية بنفس الآلية التي تتواشج فيها الأزمنة، بما في ذلك ما يتعلق بحراك أزمنة البنية اللفظية- اللغة. لذلك كان دور النقد في قدرته على الغوص في عمق النص، يشكل تفاعلاً عضوياً، يجعل الأبعاد والعناصر اللامرئية حضوراً يقينياً قائماً في تفاعل المتلقي معه، بحيث يمسك النقد بإحداثيات حراك تلك العناصر، تماماً كما يفعل مع العناصر الملتقطة ذات الحضور البين ؛ لذلك كان ضرورياً التقاط مفاتيح الحراك المتمثّل في أزمنة البنية الدلالية والمعنية للنص باعتبارها حراكاً لسيرورة داخلية تتداخل مع تاريخية أزمنة البنية التركيبية واللفظية كسيرورةٍ خارجيةٍ وما يمثّله تداخلهما من مسرىً سيروريّ عام للنص، بحيث يمكننا أن نقرّب حركية السيرورة الداخلية من قدرتنا على مس الشعور الباطني (الوجداني) بالزمنية، والخارجية من إمكانية تكوين تصور وفعل موضوعيين للزمنية. وإذا كان صحيحاً أن الشعور الباطني بالزمنية من حيث هي دفق وانسياب يحفر كل الوحدات الحدسية أيضاً (الإدراكية الحسية والتذكرية والتخيلية)، فهو مع ذلك شعور نشيط ومكون لسلاسل ضرورية لزمن موضوعي خاص بإثبات الذات وبالتصور والفعل (وإن كانت في ذلك مجازفة بالذات تؤدي إلى تبديدها وإلى الفصام) هذا هو الشعور بعينه الذي يدعم الإحالة إلى الأشياء والأحداث في الفضاء التشكيلي ذي الطموح الدلالي والإيمائي».
لا نص شعري بلا زمان؛ لأن الشعر كتابة بالأزمنة فنحن نقصد «باللازمان» فضاء الأسطورة، الذي يتجاوز إمكانية تحديد العقل لحركية الزمان لأحد أنواعه أو تداخلها.
فلا زمان بدون إنسان يعطيه معنى التاريخ، ولا مكان بلا إنسان يعطيه فضاءه الحي. هذه هي العلاقة الأولية لدى شاعرتنا التي تصارع كي تطرح فضاء الذاكرة في إحداثياتها الزمكانية، بديلاً للتشتت الفيزيائي لعناصر هذه العلاقة. بحيث تبقى العلاقات الحضورية في نصوصها موازية تماماً لظهور العلاقات الغيابية في لحظة اكتمال النص لغويا.
ليس في الشعر ما يسمى «لا زمان». كل شيء في الشعر مرتبط بحراك الزمان، لأنه عالم لغوي و«اللغة مجموعة من العلاقات، لا مجموعة من الألفاظ»، وتتحرك اللغة عبر سياقاتها الراسمة والمرسومة والمتفاعلة والفاعلة في حركية أزمنتها. فاللغة تتشكل من خلال علاقات السياق. وهذا الأخير يتواشج بعضوية مع فضاءات الزمن، المحدد لإحداثيات العنصر المعرفي في الفراغ الاجتماعي والذي يجعل التكوين الشعري، وكأنه نقيض لمنطق المحاكمة العقلية البسيطة.
copy short url   نسخ
16/07/2019
4394