+ A
A -
أسامة أبو ارشيد كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن
كلما ظن الأميركيون أن رئيسهم دونالد ترامب، قد وصل أخيرا إلى قاع الانحدار الأخلاقي والسياسي، وأنه لا قاع بعد ذلك، فاجأهم بأن للقاع دركا أسفل آخر، وبأنه لا يتردّد في بلوغه. جديد حلقات هذا المسلسل، الذي لا يكاد ينتهي، كان هجوما عنصريا شنّه ترامب عبر «تويتر»، يوم الأحد الماضي ضد أربع نساء ينتمين لأقليات مختلفة،
ويمثلن الحزب الديمقراطي في مجلس النواب الأميركي، أتبعه بجملة تصريحاتٍ مسعورةٍ لم تتوقف، يصر فيها على موقفه. مضمون تصريحات ترامب وتغريداته قام على تشكيك ضمني في أميركية وولاء النساء الأربع اللائي وصفهن بـ «الفريق»، وطالبهنّ بالعودة إلى البلدان التي جئن منها. اللافت هنا أن ثلاثا منهن ولدن في الولايات المتحدة. ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، مولودة في نيويورك وتمثلها في مجلس النواب، ويرجع أصلها إلى جزيرة بورتوريكو في البحر الكاريبي، وهي مستعمرة خاضعة للولايات المتحدة، من دون أن تعطى صفة ولاية، ويحمل سكانها الجنسية الأميركية. أيانا بريسلي، من الأقلية السوداء، مولودة في ولاية أوهايو، وتمثل إحدى دوائر ولاية ماساتشوستس في مجلس النواب. رشيدة طليب، من أصول فلسطينية، مولودة في ولاية ميشيغن وتمثلها كذلك في مجلس النواب. أما الرابعة، وهي إلهان عمر، فقد ولدت في الصومال، وهاجرت طفلةً إلى الولايات المتحدة وتجنست فيها، وتمثل اليوم إحدى دوائر ولاية مينيسوتا. بمعنى آخر، الأربع مواطنات أميركيات، وهذه المواطَنة هي الأرضية الأساس التي أهلتهنَّ إلى أن يترشحن للكونغرس والعمل فيه.
لا يعني ذلك كله شيئا لترامب الذي يبدو أنه لا يؤمن بأن المواطنة هي معيار الانتماء أميركيا، بقدر ما أن العرق الأوروبي الأبيض هو المحدّد الأساس في هذا السياق، ومن ثمَّ هو لم يتردد في القول: «غريبٌ أن نرى الآن عضوات الكونغرس الديمقراطيات (التقدّميات)، اللواتي جئن أصلاً من بلدان تُعتبر حكوماتها كارثة كاملة وشاملة، والأسوأ، والأكثر فساداً، وليست ذات كفاءة.. وفي الوقت نفسه، يخبرن شعب الولايات المتحدة، أعظم وأقوى أمة على وجه الأرض، بشراسة كيف ينبغي أن تتم إدارة حكومتنا!». وتساءل: «لماذا لا يعُدن ويساعدن في إصلاح الأماكن المنهارة تماماً والموبوءة بالجريمة التي جئن منها، ثم يعُدن، ليوضحن لنا كيف تم ذلك؟». أبعد من ذلك، لم يتردد ترامب في القول: «إذا لم تكن سعيدا في الولايات المتحدة وإذا كنت تشتكي طوال الوقت فتستطيع ببساطة أن ترحل».
تصريحات موغلة في العنصرية. وإلى زمن قريب، كان يُعتقد أنه لا مكان لمثل هذه اللغة في الحياة العامة الأميركية، إذ من كانوا يتحدثون بها كانوا ينظر إليهم أنهم هوامش. إلا أنه منذ أعلن ترامب ترشحه للرئاسة في منتصف عام 2015، وجد الخطاب العنصري طريقه إلى قلب الحياة العامة الأميركية ونقاشاتها، فلم يتردّد ترامب في مهاجمة الأميركيين من أصول لاتينية أو إفريقية أو مسلمة، بل إنه لم يتردد في مهاجمة النساء، والإحالة إليهنَّ بلغة بذيئة، وكذلك المعوَّقين جسديا. وكان ذلك كله يتم علنا ومباشرة وأمام شاشات التلفزة. في عالم السياسة الأميركية الذي كان سائدا لعقود، قبل خوض ترامب غمارها، كان مثل هذا الخطاب العنصري كفيلا بأن يقضي على آمال أي مرشح أو مسؤول، غير أن ترامب، مرشحا، قلب قواعد أميركية كثيرة متعارفا عليها رأسا على عقب، وهو منذ أن أصبح رئيسا، مطلع عام 2017، مستمر في العبث بالقواعد والتقاليد الأميركية التي كان يُظن أنها راسخة.
المفارقة، في هذا السياق، أن التقارير الواردة من البيت الأبيض تؤكد أن ترامب ومستشاريه يرون أن هذا الخطاب العنصري (طبعا ينكرون أنه عنصري)، ورقة رابحة في التمهيد لحملتهم الانتخابية الرئاسية شتاء العام المقبل، بل إن تقارير تؤكد أن مستشاري ترامب فوجئوا بتغريداته العنصرية يوم الأحد الماضي، وبدؤوا يتباحثون في كيفية احتواء تداعياتها، إلا أنهم انتهوا مقتنعين بمنطقه بأن مماهاة الحزب الديمقراطي في أذهان الناخبين الأميركيين مع «فرقة» النائبات التقدّميات الأربع تجعل الحزب يبدو يساريا متطرّفا. وفعلا، صوّت أغلب الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي، يوم الاثنين الماضي، ضد قرارٍ يدين تصريحات ترامب على أنها عنصرية، وكان واضحا تركيزهم على وصف الحزب الديمقراطي حزبا اشتراكيا، في محاولةٍ لحرف موضوع النقاش. صحيحٌ أن قرار إدانة ترامب مرَّ في مجلس النواب، ذلك أن الديمقراطيين هم الأغلبية فيه، إلا أنه لا يحمل قيمةً قانونية، بقدر ما يحمل قيمة معنوية.
{ عن «العربي الجديد»
copy short url   نسخ
20/07/2019
1005