+ A
A -
محمد سي بشير أستاذ جامعي وباحث جزائري
من المسلّم به، بشأن الحراك في الجزائر، أنّه منعرج تاريخي ومفصلي للقطيعة مع مرحلة زمنية بائدة، بكلّ ما تحمله من رصيد السلبيات والفشل، والانتقال إلى مرحلة زمنية أخرى، محمّلة بآمال التّغيير وميلاد عقلية جزائرية جديدة. بيْد أنه ما من بُدٍّ للوصول إلى ذلك من التأكيد على مرجعيات هذا الحراك التي تجعله إلى النجاح أقرب منه إلى الترنّح، وهي مرجعيات متنوّعة تجمع، في ثناياها، بين معطيات العقل والدّين والتّاريخ، لتجعل منه حراكا، ليس كما قال بعضهم إنّه مجرّد شعلة جديدة ينبعث بها «الرّبيع العربي» في نسخته الثانية، بل هو حراك صلب يتقوّى بتوافق الفصائل المعنية بالحوار/‏‏‏ التفاوض والممثِّلة لكل مكوّنات الجزائر ومناطقها المختلفة، بكلّ ما تحمله من ثوابت جامعة وخصوصيات تمييزية في إطار التنوّع المثري للحوار، وليس الكابح له، والمحفّز لتفردّه بالنجاح، وليس الشبيه لما سبقه من حراك.
يحتاج الحراك إلى تلك المرجعيات، حتّى لا يكون حدثا عابرا في حاضر الجزائر ومستقبلها، وهي مبثوثة في العقل الجزائري الذي صقلته تلك المرجعيات صقلا، لن يجعل منه إلاّ حراكا ناجحا، باعتبار أنّ الجميع متأكّد من خلفيته الحيوية، من حيث مؤشّر الزّمن الذي يحدث فيه، تماما مثل الذي حمل إلى البلاد حراك أكتوبر/‏‏‏ تشرين الأوّل لعام 1988، والذي، لأسباب عدة، انقلب فشلا كاملا وجرّ الويلات على الجزائر. ولعلّ هذا الأمر يشكّل، بالنّسبة لقراءة تلك المرجعيات، مرجعيةً بذاتها، إذ إنّنا أمام درس نتعلّم منه، حتى لا نقع في الأخطاء نفسها، وهي مرجعية ليست متوفرّة للتجارب العربية الأخرى، سواء الفاشلة منها أو المترنّحة.
تشير، بالنتيجة، المرجعية الأولى، مرجعية العقل، إلى خيارين استراتيجيين، هما المنعرج المفصلي لمستقبل البلاد، من ناحية، والاستفادة، قدر الإمكان، من درس الفشل السابق، واستخلاص العبر لتوفير فرص النجاح للحراك الحالي، باعتباره فرصة لتغيير بوصلة المسار على الصعيدين، الداخلي، بتجسيد التغيير والخروج من دائرة الفشل الهيكلي، على كل المستويات، والخارجي، بتحقيق مشاريع انبعاث الجوار المغاربي والتفكير في مكانة الجزائر في الإقليمين المشكّلين للفضاء الجيوسياسي الجزائري: غرب المتوسط والمنطقة الساحلية - الصحراوية.
كما تشير مرجعية العقل إلى المكاسب التي سيخرج بها الجميع (الحراك، بكل مكوّناته والنّظام الحاكم ممثّلا في المؤسّسة العسكرية والرّئاسة المؤقتة)، إذ من شأن نجاح الحراك، بأداتيْ الحوار والتفاوض، ثم باستراتيجية خيار الوفاق، في القضاء على الانسداد الحالي، أن يكون قوّة لمكوّنات الجزائر، جميعها، الحراك بأن ينال المواطنة ومنظومة الحقوق التي ستجعل منه متفرغا لتجسيد نمو البلاد وتطورها، والنظام بأن تنقل الجزائر من هرمية التبعية إلى مصاف الفعل الاستراتيجي على مستوى الجوار والإقليمين المشار إليهما، إضافة إلى مكاسب الجيش من تحوّل الجزائر إلى قوة إقليمية بمصالح حصرية لدولة متوسّطة.
ربّما يتساءل الجزائريون عن المكاسب التي يمكن أن يستفيد منها الجيش إذا نجح الحراك؟ قد يكون لمرجعية العقل، هنا، النصيب الأكبر من رصيد الإجابة، إذ إن مسار المؤسسة العسكرية، منذ انطلاق الحراك، ومحاولة بقائه في مجاله الدّستوري، يؤهّله، في حال الوصول، سريعا، إلى الوفاق، من خلال خيار الرّئاسيات المقبلة، للبقاء في تلك الدائرة، معزّزا برصيد المرافقة للحراك، الحفاظ على احترافيته، نجاحه في تأمين الجزائر منذ 2011.
{ عن "العربي الجديد"
copy short url   نسخ
24/07/2019
2660