+ A
A -
عبد الباسط سيدا كاتب وسياسي سوري
ما يُستنتج من أخبار الاجتماعات والمناقشات والتباينات والخلافات بشأن موضوع تشكيل منطقة آمنة في شمال شرقي سوريا، أو في المنطقة التي باتت تعرف وفق المصطلحات التي أفرزها التدخل الدولي في سورية «شرقي الفرات»، هو أن الحل الشامل الذي يتطلع إليه السوريون ما زال بعيد المنال، ونحن أمام وضعية ترسيخ مناطق النفوذ وتحديدها إلى إشعار آخر، في انتظار ما ستسفر عنه المتغيّرات الإقليمية والدولية، وانعكاساتها على معادلات التوازن في المنطقة.
ويشمل ذلك التحولات الداخلية التي قد تشهدها دول المنطقة، بل وحتى خرائطها التي لم يعد التفكير في إعادة رسمها من الأمور المستبعدة، على الرغم مما نسمعه من تصريحات وتأكيدات من مختلف الأطراف المؤثرة في تحديد مسارات أحداث المنطقة، ومن ضمنها ما يجري في سورية.
ولافت دخول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس نفسه، على خط التصريحات بشأن المنطقة الآمنة المقترحة، وتأكيده أهمية توافق الأطراف المعنية حولها، هذا في حين أن مبعوثه غير بيدرسن يوحي بأن الخلاف حول تشكيل اللجنة الدستورية في طريقه إلى التلاشي، ولم يعد أمام السوريين سوى صياغة الدستور، أو إعادة النظر في دستور 2012 وفق التلميحات الروسية أخيرا، على أن تكون الخطوة التالية هي الانتخابات التي ستكون، وفق ما يُفصح عنه حتى الآن، تحت إشراف الأمم المتحدة. مع العلم أن بيدرسن وغيره من المسؤولين الأمميين المعنين بالملف السوري يدركون قبل غيرهم حقيقة استحالة اختزال ما جرى ويجري في سورية منذ نحو تسعة أعوام بلجنة صياغة دستورٍ لن يطبّق في غياب الآليات والقواعد التي تمنع بصورة جازمة تدخل الأجهزة الاستخباراتية الكثيرة المتشعبة في القرار السياسي السوري، كما أن الحديث عن الانتخابات التي يتم ترويجها، وأكثر من نصف السوريين بين مهجّر ومشرّد، أمر مدهش لم تتناوله أغرب الروايات السوريالية بعد.
الأمر الآخر اللافت صمت النظام شبه التام إزاء ما يجري من أجل التوافق على تشكيل المنطقة الآمنة، وهو صمتٌ يتقاطع، إلى حدٍ كبير، مع الصمت الروسي الذي تتخلله أحياناً تصريحاتٌ إعلامية مناسباتية غالباً ما تكون بغرض التضليل والتمويه. وهذا ما يؤكد أن التوافق بين مختلف الأطراف التي تتقاسم المساحة السورية راهناً حول توزيع مناطق النفوذ، وترسيخ حدودها، هو ما يحكم العمل المشترك بين هذه الأطراف، وعلاقاتها بعضها ببعضها الآخر.
ولكن الوضع يتخذ بالنسبة إلى تركيا منحىً خاصاً وأهمية استثنائية، فهي، من دون الدول الأخرى المنافسة لها، تشترك مع سوريا بحدودٍ برية يتجاوز طولها 900 كلم، ولا يقتصر الأمر على الحدود، بل هناك تداخل وتفاعل سكانيان عبر توزع المكونات المجتمعية على طرفي الحدود، هذا إلى جانب المصالح المشتركة، وحتى الأبعاد النفسية التي تستند إلى ذكريات التاريخ وأحداث الراهن، فهناك سوريون ما زالوا يحنون إلى أيام الخلافة العثمانية، في حين يعتبر آخرون حكم تلك الخلافة احتلالاً كان يبنغي التخلص منه، ولو عبر التحالف مع القوى الغربية التي طالما تعاملت، ولا تزال، مع منطقتنا انطلاقاً من زاوية مصالحها ومقتضياتها. وبين هؤلاء وأولئك، غالبية السوريين الذين يتطلعون إلى علاقة طبيعية مفيدة بين الشعبين، التركي والسوري، على أساس احترام وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا، والتواصل السكاني، والروابط الروحية والثقافية، والمصالح الاقتصادية المشتركة. وضمن هذا الإطار، يأتي الاهتمام التركي بالشمال السوري، المتمفصل حول التحسب لاحتمالية أية تهديدات آنية أو مستقبلة، وفق التقديرات التركية نفسها، فتركيا مهتمة بما يجري، وسيجري في منطقة إدلب، كما أنها مهتمة بما ستكون عليه الأمور في جرابلس والباب. ولكن الاهتمام التركي الأكبر متمحور حول منطقة شرقي الفرات، والمناطق الكردية تحديداً، لسببين أساسيين:
الأول، تداخل هذه المناطق مع تلك الكردية الواقعة على الجانب التركي.
(يتبع)
{ عن «العربي الجديد»
copy short url   نسخ
14/08/2019
509