+ A
A -
سوسن جميل حسن طبيبة وكاتبة وروائية سورية
باعتباري واحدة من السوريين الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من الشعب السوري، لست سياسية ولا تستهويني السياسة، بل إنني شبه أمية بمفرداتها وأدواتها وأساليبها وألاعيبها، فأنا لم أنتمِ في أي يوم إلى أيّ من الأحزاب السورية بكل أطيافها وتصنيفاتها وبرامجها وأهدافها وشعاراتها ومشاريعها، ولم أكن في يوم ما ناشطة في المجال المدني أو الحقوقي، ولم أتبوأ منصبًا في الدولة. ولكنني كنت أعيش على وقع الحياة في سوريا، وأشعر بما يشعر به غالبية السوريين. تضعني مهنتي طبيبة أمام معاناتهم وجهًا لوجه. ليست المعاناة المرضية وحدها، بل ألم الحياة الذي يخترق أرواحهم، هذا الألم الذي يشكونه إلى الطبيب قبل شكواهم الجسدية، وهذه ملاحظة يعرفها أطباء سوريا، يعرفون كم يحتاج مريضنا إلى البوح، وليس هناك مستودع أسرار أرحب من صدر الطبيب. وإذ اندلعت الاحتجاجات في مارس 2011، فإنها سرعان ما تحوّلت إلى حربٍ جرفت الجميع إلى دوامتها، وأعملت سكّينها في جسد المجتمع السوري، وشرذمت الشعب بطريقة أقل ما يمكن أن توصف به أنها وحشية.
بما أنني أنتمي إلى المهمومين بالكتابة، فإن هذا الهم رماني في قلب الأحداث، فنالني ما نالني من لهيب النيران وشظايا القنابل التي تفجّرت في وعي المجتمع، وفي وجدانه، ولولا أن هذه التجربة التي أتكلم عنها أصبحت ظاهرةً تستحق الوقوف عندها، لما أتيت على ذكرها كتجربة شخصية. منذ البداية، استشعرت، كما استشعر غيري من السوريين، هول الهاوية التي انزلقنا إليها، وهول الكارثة التي ألمّت ببلادنا، وأخطر ما فيها وقد بدأت إرهاصاته باكرًا، دمار المجتمع السوري وتجذّر الانقسامات والتصدّعات في بنيانه، فأصبح واقع الحال الذي آلت إليها الأمور، والانكشاف الصاخب لما هو عليه هذا الواقع من أمراضٍ مستبطنةٍ كفيلةً بأن تعرقل تطور المجتمع وتقدمه في طريق مواكبة العصر جديرًا بأن يولى كثيرا من الاهتمام والمتابعة ومحاولات دق نواقيس الخطر، حتى لو كانت أصوات الحرب والمدافع أقوى، على أمل أن يسمع صوت تلك النواقيس في لحظة صمت بين رشقةٍ وأخرى.
الانشغال بالهم العام، وبقضايا المجتمع ومحاولة إنعاش الوعي العام كلما أوشك على الغيبوبة تحت تأثير نزيف الأرواح والضغينة التي توفر لها بسخاء ما يغذّيها، هذا ما شغل شريحة واسعة من المثقفين في سوريا، وهذه الشريحة هي التي نالها النصيب الأكبر من الاتهامات والتشهير والشتائم والتخوين، متهمين إياها بالرمادية حينًا وبالتلون حينًا، وبانتظار أن تنجلي الأجواء، فهي تترقب لتعرف إلى أي الضفتين تميل، أو بالأحرى ضفة المنتصر. وهذا مؤشّر يدل على أحد أهم أسباب الخراب الذي لحق بالمجتمع السوري، فكان نتيجة وسببًا في الوقت عينه.
المشكلة الكبرى كانت أن المرحلة طرحت من ضمن ما طرحت على القاعدة الشعبية التحاقًا بنخبها، إلزام الناس بالاصطفاف السياسي.
(يتبع)
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
15/08/2019
217