+ A
A -
عبد الباسط سيدا كاتب وسياسي سوري
هناك تداخل وتفاعل سكانيان عبر توزع المكونات المجتمعية على طرفي الحدود. هذا إلى جانب المصالح المشتركة، وحتى الأبعاد النفسية التي تستند إلى ذكريات التاريخ وأحداث الراهن، فهناك سوريون ما زالوا يحنون إلى أيام الخلافة العثمانية. في حين يعتبر آخرون حكم تلك الخلافة احتلالاً كان يبنغي التخلص منه، ولو عبر التحالف مع القوى الغربية التي طالما تعاملت، ولا تزال، مع منطقتنا، انطلاقاً من زاوية مصالحها ومقتضياتها.
وبين هؤلاء وأولئك، غالبية السوريين الذين يتطلعون إلى علاقة طبيعية مفيدة بين الشعبين، التركي والسوري، على أساس احترام وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا، والتواصل السكاني، والروابط الروحية والثقافية، والمصالح الاقتصادية المشتركة. وضمن هذا الإطار، يأتي الاهتمام التركي بالشمال السوري، المتمفصل حول التحسب لاحتمالية أية تهديدات آنية أو مستقبلة، وفق التقديرات التركية نفسها، فتركيا مهتمة بما يجري، وسيجري في منطقة إدلب. كما أنها مهتمة بما ستكون عليه الأمور في جرابلس والباب. ولكن الاهتمام التركي الأكبر متمحور حول منطقة شرقي الفرات، والمناطق الكردية تحديداً، لسببين أساسيين:
الأول، تداخل هذه المناطق مع تلك الكردية الواقعة على الجانب التركي، فالسكان على طرفي
الحدود يرتبطون في ما بينهم بروابط اجتماعية كثيرة، تعود بتاريخها وجذورها إلى مرحلة ما قبل التقسيم القسري الذي شهدته المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، بل وإلى ما قبل تأسيس الامبراطورية العثمانية نفسها.
السبب الثاني الذي يدفع تركيا نحو الاهتمام الخاص بهذه المنطقة هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على هذه المنطقة، بفعل التنسيق الكامل الذي كان منذ بداية الثورة السورية بين هذا الحزب والنظام السوري، ومن ثم تطوّرت الأمور وتفاعلت، حتى حدث تفاهم مع الجانب الأميركي الذي استخدم قوات الحزب المعني في محاربة تنظيم داعش، الأمر الذي لم يكن بعيداً من التفاهمات مع الجانب الروسي. وهذا معناه قبول النظام بالأمر. فتركيا ترى في هيمنة هذا الحزب على المناطق الكردية السورية، وامتلاكه الأسلحة الأميركية الحديثة، وحصول كوادره ومقاتليه على خبرة قتالية ميدانية كبيرة، خطراً يهدّد عمقها الإقليمي، خصوصا أن هذا الحزب لا ينفي علاقته مع حزب العمال الكردستاني، على الرغم من حرصه على الظهور في مظهر الحزب السوري الذي يعمل على تشكيل تحالفٍ بين مختلف المكونات المجتمعية في المنطقة، واتخاذ اسم سوريا الديمقراطية شعاراً لتشكيلاته العسكرية والكيانات السياسية التي يظل هو بمثابة العمود الفقري لها.
وهكذا تجد تركيا نفسها موزّعة بين محورين أو تحالفين: محور روسيا وإيران. ومحور الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. ولها مصالح لدى هؤلاء وأولئك، وتحاول بشتى السبل مسك العصا من وسطها، علّها تحصّل ما تريده من الطرفين، غير أن قواعد التعامل بين القوى الإقليمية من جهة، والدولية الكبرى من جهة أخرى، تختلف عن التي تنظم العلاقات بين الأخيرة، فالقوى الإقليمية مطلوب منها، أو بكلام آخر، هي محكومة بعملية الاختيار بين هذا المحور أو ذاك. في حين أن القوى الكبرى تستطيع، نتيجة تداخل المصالح والاهتمامات بينها في مناطق كثيرة، وبفعل امتلاكها وسائل القوة الاستراتيجية على مختلف المستويات، أن تحدّد نقاط التوافق والخلافات، لتتفاهم على الأولى، وتترك الثانية للمستقبل.
مع ذلك، يبقى الحرص الأميركي على العلاقة الاستراتيجية مع تركيا لافتاً، على الرغم من كل الخلافات المعلنة بخصوص صفقة صواريخ إس 400، وطائرات إف 35، فلتركيا مكانة استثنائية في الاستراتيجية الأميركية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، بل وحتى في التي تشمل آسيا الوسطى والشرق الأقصى، فهي دولة كبيرة ومؤثرة، لها اتصالات ومصالح متبادلة مع معظم دول العالم الحيوية. وتركيا غير مستعدّة، لأسباب كثيرة، للخروج بصورة كاملة من تحالفاتها وشراكاتها الغربية، وتهديد علاقاتها الاقتصادية المهمة مع الولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من كل ما حصل. ولذلك يبذل الطرفان كل ما في وسعهما من أجل الوصول إلى توافقٍ يخص المنطقة الآمنة، هذا مع حرص كل طرف على استخدام بعض أوراقه، وتوفير قسم منها تحسباً لاحتمالات جديدة.
إمكانيات التفاهم والعمل المشترك حول المنطقة المعنية واقعية، خصوصا في ضوء ما أعلن عنه من توافق أولي مبدئي بين الطرفين بشأن مركز العمليات المشترك.
(يتبع)
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
15/08/2019
259