+ A
A -
عيسى الشعيبي كاتب وصحافي من الأردن
أردت نشر هذه الورقة في الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والمعروف باتفاق أوسلو، في حديقة البيت الأبيض، في 13 /‏ 9 /‏ 1993، قبل سنة، إلا أنني آثرت حينها عدم المشاركة في السجال الصاخب، والتلاوم المرير، الذي نشب بحدّةٍ لافتةٍ في هذه المناسبة، المثيرة لآلام الفلسطينيين وأشجانهم، المجدّدة لخلافاتهم وانقساماتهم، الحاضرة بقوة في مختلف أدبياتهم السياسية، حيث بدا مشهد المشتبكين بشأن الاتفاق، وكأن أحداً منهم لا يود التوقف عن اجترار المرارة، فتح الجراح، تجرّع خيبة الأمل، أو غير ذلك من الذكريات المفعمة بروح الاتهامات المتبادلة، فيما بدت الاستعادات الإسرائيلية لهذه الواقعة، وفق ما حفلت به الصحافة العبرية في الذكرى ذاتها، طافحةً بالألم والندم على ارتكاب خطيئةٍ كبرى، مكّنت العدو الرئيس للحركة الصهيونية، ونعني بها الحركة الوطنية الفلسطينية، من إقامة أول رأس جسر على أول أرض متاحة، ومنحها اعترافاً رسمياً ووضعية قانونية، ومشروعية دولية، وفوق ذلك شقت أمامها طريقاً يعِد بدولة فلسطينية مستقلة.
لا تودّ هذه المقدمة التمهيدية أن تقف على منصة الاتهام بالطبع، ولا أن تترافع في المقابل عن اتفاق كان ولا يزال خلافياً، كما لا يودّ صاحب هذه المطالعة أن يبدو تبريرياً لإكراهات مرحلةٍ سياسية لم تختتم فصولها بعد، وقد لا تختتمها في زمن قريب، أو أن يكون مسوّغاً لمآل وطني إشكالي بالضرورة الموضوعية، ومثقلٍ بالصعوبات والإخفاقات، حيث لا يزال الماضي ماثلاً ملء السمع والبصر، يمضي ولا يمضي بآثاره الحسّية ونتائجه غير النهائية، بينما المضارع مفتوحٌ على كل الاحتمالات الممكنة. كذلك لا تود هذه المقاربة الحذرة أن تُصدر أحكاماً قطعية على هذا الاتفاق، وفق مرجعياتٍ معرفيةٍ وخبراتٍ مكتسبة في وقت زمني لاحق، قد لا تمت بصلة قويةٍ إلى تلك المعطيات التي أدّت، في حينه، إلى إبرام هذا الاتفاق، الذي وصف في حينه بزلزال سياسي لا يقل أهمية عن زلزال سقوط حائط برلين.
خلفية تاريخية
بكلام آخر، لا يستقيم الحكم على اتفاق أوسلو، لا بحسب النيات، ولا بحسب النتائج أيضاً، وليس من العدل تقييمه بصورة منصفة، إلا باستحضار كل تلك الحقائق والظروف والمعطيات التي كانت قائمة في حينه، تلك الحقائق التي جعلت من خيار «أوسلو» هذا أقل الخيارات الممكنة سوءاً آنذاك، وأقرب البدائل منالاً إلى يدٍ مغلولة، كان صاحبها يراوح في مكانه، على دروبٍ مسدودة، لا ظهر له ولا وعداً يلوح في سمائه المطبقة على الأرض، فيما الخزينة فارغة، والحصار المالي لا يقل شدّة عن الحصار السياسي المضروب على القيادة الفلسطينية منذ غزو العراق الكويت، فضلاً عما اعترى الحالة الفلسطينية من مظاهر تآكلٍ ذاتي، كادت أن تُميت منظمة التحرير في منفاها البعيد، وتحيلها إلى المصير الذي آلت إليه حكومة عموم فلسطين.
إذ كانت قد مرّت، في أوائل عقد التسعينيات، أي عشية بدء المفاوضات السرية بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل، وهي أول مفاوضاتٍ من نوعها في تاريخ الصراع المديد، نحو عشر سنواتٍ على آخر المعارك العسكرية الكبرى التي خاضتها قوات الثورة الفلسطينية في معقلها اللبناني ضد إسرائيل عام 1982.
{ عن «العربي الجديد»
copy short url   نسخ
15/09/2019
287