+ A
A -
عيسى الشعيبي كاتب وصحفي من الأردن
لا يستقيم الحكم على اتفاق أوسلو، لا بحسب النيات، ولا بحسب النتائج أيضاً، وليس من العدل تقييمه بصورة منصفة، إلا باستحضار كل تلك الحقائق والظروف والمعطيات التي كانت قائمة في حينه، تلك الحقائق التي جعلت من خيار «أوسلو» هذا أقل الخيارات الممكنة سوءاً آنذاك، وأقرب البدائل منالاً إلى يدٍ مغلولة، كان صاحبها يراوح في مكانه، على دروبٍ مسدودة، لا ظهر له ولا وعداً يلوح في سمائه المطبقة على الأرض، فيما الخزينة فارغة، والحصار المالي لا يقل شدّة عن الحصار السياسي المضروب على القيادة الفلسطينية منذ غزو العراق الكويت، فضلاً عما اعترى الحالة الفلسطينية من مظاهر تآكلٍ ذاتي، كادت تُميت منظمة التحرير في منفاها البعيد، وتحيلها إلى المصير الذي آلت إليه حكومة عموم فلسطين. إذ كانت قد مرّت، في أوائل عقد التسعينيات، أي عشية بدء المفاوضات السرية بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل، وهي أول مفاوضاتٍ من نوعها في تاريخ الصراع المديد، نحو عشر سنواتٍ على آخر المعارك العسكرية الكبرى التي خاضتها قوات الثورة الفلسطينية في معقلها اللبناني ضد إسرائيل عام 1982، تلك المعركة التي انتهت بتشتيت المقاتلين في بلدانٍ عربية، ونفي القيادة الوطنية ومقاتليها إلى مقر يبعد آلاف الكيلومترات عن حدود فلسطين، إلى جانب وقوع مجزرة رهيبة في مخيمي صبرا وشاتيلا، وحدوث أبشع انقسام في العالم العربي إثر اجتياح العراق دولة الكويت، ناهيك عن انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفتاح أبواب الهجرة أمام مئات ألوف اليهود الروس.
وهكذا انغلقت الدروب التي لم تكن مفتوحة بالأساس، وقلّت الخيارات القليلة أصلاً في واقع الحال، وباتت المنجزات الوطنية الجزئية والمتفرّقة، المتحققة بالقتال والدماء والعذابات، معرّضةً للتبدّد التدريجي، واستبدّ الخوف من إمكانية ذهاب كل التضحيات سدى مع الريح، وذلك بعد أن انهار العالم القديم، وتبدّلت المعطيات على الصعيدين؛ الإقليمي والدولي، على نحو عميق. ولولا انتفاضة الحجارة الباسلة عام 1987، التي ردّت الاعتبار للعامل الذاتي بعد طول غياب، وأعادت تأهيل الوضع الفلسطيني، ومنحته قوة دفع ذاتي هائلة، وأقامت بعض التوازن النسبي، وأوجدت معادلةً جديدة، بل ووضعت بين يدي القيادة المحاصرة رافعةً قويةً ضد محاولات الإلغاء والتهميش، نقول لولا تلك الانتفاضة المجيدة، لما تمكّنت سفينة الحركة الوطنية المحاصرة من الإقلاع ثانيةً من البرزخ الصخري العالقة فيه.
وليس من شكٍّ في أنه من غير تلك الانتفاضة الباسلة التي أعادت منظمة التحرير إلى قلب المشهد السياسي، بعد أن كانت مهدّدة بالخروج من المعادلة صفر اليدين، وأكسبت الممثل الشرعي الوحيد أهليةً وحيويةً مستحقتين، ورفعت القضية الفلسطينية إلى مكانتها الباسقة على جدول الاهتمامات العربية والدولية، لما كان لعملية أوسلو أن ترى النور، ولا كان لذلك الاتفاق الذي منح القيادة الفلسطينية قاعدة ارتكازٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ على أرض فلسطين أن يوقّع، وذلك بعد أن أنهت الانتفاضة حالة الاستخفاف الإسرائيلي المديد بقدرة الشعب الفلسطيني على الانبعاث من جديد، على نحو أشد فاعلية من ذي قبل، وأكثر مقبولية ومشروعية لدى الرأي العام الدولي، بما في ذلك قطاعات مهمة من الرأي العام الإسرائيلي.
معطيات مرحلة استثنائية على خلفية ما تقدّم، شكلت معطيات تلك المرحلة الاستثنائية لحظةً مواتيةً للبحث عن مخرجٍ من حالة الانسداد التام، أو قل للبحث عن مخرجٍ ما من الطريق المسدود أمام سائر الأطراف، لا سيما أمام القيادة الفلسطينية التي رأت في الأفق البعيد المغلق ما يشبه شمعةً ضئيلةً متقدة وسط ليل عربي فلسطيني دامس، الأمر الذي حفزها على تجريب ما لم تجرّبه من قبل (التفاوض مع العدو وجهاً لوجه).
{ عن (العربي الجديد)
copy short url   نسخ
16/09/2019
194