+ A
A -
يطرح الأستاذ عمر عبيد حسنه، في كتاب جديد صدر حديثاً عن (المكتب الإسلامي) في بيروت، بكثير من العمق في التفكير والتحليل والتفكيك والتركيب وبأسلوب يتميز بالعذوبة والسلاسة والانسيابية، إشكالية «الوهن الحضاري» متتبعاً سيرورتها وصيرورتها من حقبة «تداعي الأمم» إلى حقبة «استدعاء الأمم».
وتأتي أهمية هذا الطرح الفكري بالنظر إلى أن الوعي بأسباب السقوط وعوامل النهوض ليس بالأمر الهيّن، فهو مما يتطلب جهداً وصبراً، وتخصصات متنوعة، وأمناً اجتماعياً وسياسياً، وقيماً تضبط المسيرة وتحول دون انحرافها وتشكل الفاعلية الغائبة والرافعة الحضارية.
وعلى الرغم مما تميز به هذا العمل من دقة في التحليل والتصنيف والتناول إلا أن الأستاذ يحرص على وصفه، بكثير من التواضع، بأنه «بعض الخواطر والأفكار والملحوظات والاستقراءات، التي جاءت ثمرة لبعض المشاهد الميدانية والمقاربات والمقارنات والمعاناة»، وذلك «للتأكيد والتعميق والتأسيس، في محاولة لقراءة حال الأمة والتيه الذي دخلت فيه ولم تخرج، ومرحلة «القَصْعَة» و«الوهن الحضاري»، عسى أن تكون المنبّه والمحرض وجرس الإنذار، بعيداً عن العناد والتحزب والاستكبار والغش الديني، ودافعاً للبناء والمراجعة واكتشاف الخلل ومعاودة النهوض».
كما تأتي أهمية البحث في هذه الإشكالية بالنظر إلى خطورة «الوهن الحضاري»، باعتباره حالة نفسية غثائية، أدت إلى استيطان الرعب في القلوب، ونزع مهابة الأعداء وإغرائهم وتداعيهم إلى «قَصْعَة» الأمة، بل وصل الأمر بالأمة إلى ما هو أكثر خطراً وأبعد أثراً وأعمق استلاباً، تجاوز مرحلة «القَصْعَة»، وتداعي الأمم، إلى مرحلة دعوة الأمم.
فالأمة، وهي تعيش الحالة الغثائية، لم تعد في مرحلة أن تتداعى عليها الأمم، بل وصلت إلى مرحلة استدعاء الأمم إلى أرضها، واحتياز خيراتها، تحت عناوين وشعارات شتى، مما أدى إلى مزيد من الاختراق والاستكناه لأفكارها وأحوالها وتوجهاتها وتاريخها، ومن ثمّ الوصول إلى معرفة كيفية التعامل معها وتوجيه جماهيرها، وتحويل جميع الطاقات والإمكانات لصالح الخصوم والأعداء.
ولعل السبب الرئيسي في ذلك كله، كما يرى المؤلف، هو: شهوة السلطة والحكم والتسلط وما تستدعيه من الاستقواء بالآخر للاحتفاظ بالسلطة أو في سبيل الوصول إليها، فهو يشمل من هو في الحكم للحفاظ عليه، ومن هو في المعارضة والمنازعة على السلطة والسعي لاحتيازها وعدم إبصار سواها من مهمات ووظائف المجتمع.
أسباب وعوامل
«الوهن الحضاري»
وعلى الرغم من تعدد وتنوع أسباب وعوامل «الوهن الحضاري» إلا أن الأستاذ عمر خصّ بالبحث والدراسة أكثرها خطورة، في الوقت الحاضر، بشكل خاص في: الغفلة وغياب الوعي ونظرية المؤامرة؛ إفساد المؤسسة الدينية؛ تفريق أمر الدين؛إلغاء العقل وتعطيل وظيفته بإغلاق باب الاجتهاد؛بروز «إنسان الحق» وضمور «إنسان الواجب»؛الصراع على السلطة؛السقوط في العمالة السياسية والثقافية والعسكرية؛ إحياء الفتن وبعثها من مرقدها والسقوط في حمأتها؛ الإكراه وإلغاء حرية الاختيار؛ الاختراق والتجسس؛ توهان السعي وغياب الرؤية الصحيحة؛و انعدام الرؤية الاستراتيجية.
فالغفلة وغياب الوعي ونظرية المؤامرة، وانطفاء الفاعلية، والاسترخاء والدعة، والترف والرخاوة، هي المنافذ التي تمكِّن للكيود والمؤامرات وامتداد (الآخر) في فراغ الأمة.
وإفساد المؤسسة الدينية، التي هي مناط النهوض الحضاري وبيان أهمية القيم ودورها في حياة الإنسان، إنما كان بإخراجها من رسالتها، ومحاصرة دورها في الأمة.
وإلغاء العقل وتعطيل وظيفته بإغلاق باب الاجتهاد، من أخطر البلاءات والإصابات، التي مُنيت بها الحضارة الإسلامية وأصابتها بالوهن والكساح الحضاري وجعلتها محلاً لنفايات الحضارات الأخرى ونهباً مستباحاً للأعداء.
وتكمن الخطورة، من جانب، في أن ذلك يتم بمسوغ ديني، وتقوم عليه وتعتاش منه مؤسسات تعليمية وكليات ومدارس فكرية وفرق صوفية وطوائف دينية.
ولقد احتلت إشكالية (الصراع على السلطة) وطرائق احتيازها، وحمايتها، والمغالبة عليها من قبل خصومها لاحتيازها، مساحة مقدرة في هذا الكتاب.. فهي، كا يرى الكاتب، أس الإشكالية الإنسانية، وأصل جميع الشرور والآثام، وسبب التبديد والتدمير للطاقات، والهدر للموارد والإمكانيات، والإشاعة للخوف والقلق و«الوهن الحضاري» والتخلف الاجتماعي؛ فهي وراء كل المصائب والاستدعاء (الآخر) والتقوي بالخارج، والتنازل عن قيم الأمة وعقيدتها وتاريخها وحضارتها؛ يستوي في ذلك من يمسك بالسلطة ومن يتطلع إليها.
كما يقف هذا الصراع وراء نشوء ألفِرق، التي أنهكت الحضارة الإسلامية، وعبثت بقيم النبوة، وأوّلت وحرّفت النصوص الشرعية، وأسست للمغالاة، وهو في حقيقته صراع على السلطة السياسية مغلّف بقيم الدين.
ولعل الخطورة الأكبر في هذا الصراع أنه لم يقتصر على تخريب الحاضر والتحكم به، بل امتد إلى تشويه الحضارة والتراث والتاريخ والقيم والعقائد؛ لأنها تشكل الإمكان الحضاري، الذي يتمكن من إعادة تأهل الأمة وبعثها ونهوضها من جديد.
كما يأتي الصراع على السلطة وحمايتها والاحتفاظ بها، وفرض التحكم والسيطرة، كسبب لمحاولات الاختراق للأفراد والجماعات والأحزاب والمؤسسات والدول والحكومات، وحتى المؤسسات البحثية والأكاديمية، بما فيها المعاهد والكليات.
ومن ثمّ يختتم الأستاذ عمر حسنه كتابه بالنظر والتأمل في «موقع العاملين للإسلام ودورهم في إعادة البناء الحضاري»، ويخلص إلى أن الإشكالية الكبرى والمزمنة في التعامل مع التخلف و«الوهن الحضاري»، بالنسبة للعاملين للإسلام، تكمن في الخلط بين السياسة وأدواتها وأساليبها ومكائدها وتحيزها وتحزبها، وبين النبوة ورسالتها وخطابها العام، وابتعادها عن التحيز والطوأفة والتحزب والانفصال عن المجتمع وخصومته ومعاداة أحد من أفراده وإقامة الحواجز النفسية بين شرائحه وأفراده.
فهذا الخلط أدى إلى كثير من المضاعفات والتداعيات والآثار السلبية، التي انعكست على الأمة، وعطلت فاعليتها، وانتهت بالكثير من أفرادها إلى اهتزاز الثقة برسالة النبوة وقدرتها على الانتشال من «الوهن الحضاري».
copy short url   نسخ
15/10/2019
3191