+ A
A -
كمال عبداللطيف أكاديمي وكاتب مغربي
حرص كل واحد من المرشحيْن في المناظرة على إبداء رأيه، والتفاعل مع أسئلة الصحفيين في محاور التناظر المتعلقة بالقضايا المرتبطة بمهام رئيس الجمهورية في تونس. وعلى الرغم من أن الشروط العامة المؤطّرة للمناظرة المذكورة لم تكن مناسبةً لتقديم تَنَاظُر متكافئ -حيث كنا، من جهةٍ، أمام مرشح مستقل وآخر يقود حزباً جديداً وقد قضى أزيد من شهر في السجن بِتُهَمٍ تتعلق بتهم برزت زمن مشاركته في الرئاسيات، ولم يبت القضاء فيها بَعْدُ- حافظ التناظر بينهما على مقتضيات النقاش المسؤول والمعبِّر عن مواقف كل منهما.
صحيح أن المرشّح المستقِل التزم، طوال التناظر، بنوع من الخطاب الفصيح، مع كثير من الصرامة في ضبط مواقفه وخياراته، وأن رئيس حزب قلب تونس كان يعتريه في أثناء التناظر قليل من التلكؤ والارتباك، إلا أنهما معاً، وخارج المواقف المبدئية التي عَبَّر عنها كل منهما، لم يتردَّدا في التعبير عن نزوعٍ شعبوي، يرتبط برغبتهما معاً في استمالة متابعي المناظرة من الكتلة الناخبة، وهذا أمرٌ مشروعٌ ومرتبط بالأهداف المتوخّاة من المناظرة.
وإذا كان قد تم إعلان فَوْز قيس سعيد، حيث أصبح لتونس الثورة رئيس جديد منتخب، فإن ما يهمنا من كل ما جرى هو المناظرة، بحكم أنها ليست مألوفةً في المجال السياسي العربي. صحيح أننا اعتدنا، منذ عقود، متابعة المناظرات السياسية بين المرشحيْن للرئاسة في الديمقراطيات الأوروبية، إلا أن ما جرى في تونس يدعونا إلى الانتباه إلى أهمية الحدث، حيث يمكن أن نستخلص منه عِبَرا كثيرة في موضوع الانتقال الديمقراطي الذي تقترب من أبوابه مجتمعات عربية كثيرة منذ ثورات 2011.
لا تهم الانطباعات التي تركها كل من المرشحيْن في أذهان من تابعوا عملية التناظر، كما لا تهم النزعة الشعبوية التي بدت بارزة في بعض مقاطع التفاعل بين المرشحيْن في ما استمع إليه من كل منهما، ذلك أن مقتضيات التناظر تقتضي ذلك، من أجل توضيح موقف أو الإشارة إلى خيار مُحَدَّد. ما يهمنا، أساساً، من مناظرة الرئاسيات التونسية، هو التفكير في علاقة السياسة ببلاغة الخطاب. ومعلوم أن مبدأ المناظرة بين المتنافسين في المجال السياسي يرتبط بكفاءة الخطَابَة، وبقدرة المتناظرين على التحليل. وتنجح المناظرات بالكفاءة البلاغية التي تساعد على الاستمالة والإقناع، وغالباً ما يفوز فيها من يتوفر على الكفاءة الخطابية وحُسْن اختيار الكلمات والمواقف، الأمر الذي يؤكّد الصلة التاريخية المتينة بين الخطابة والسياسة، وبين البلاغة والسياسة، ونزداد تأكداً من هذا عندما نُدْرِكُ أن الخطابة تُعَدُّ من أهم الجوامع بين أعرق الديمقراطيات في عالمنا، فبلاغة القول تظل عنصراً مركزياً في المجال السياسي، وفي مختلف الديمقراطيات.
تحدث قيس سعيد في واحدة من الحلقات الثلاث في المناظرة الرئاسية الأولى التي جمعت أزيد من عشرين مرشحاً، وصُنِّف فيها مستقِلاً، بطريقةٍ مختلفةٍ عن أغلب الذين تناظروا في الحلقات الأخرى، فقد كان يبدو، مقارنةً مع الآخرين، وكأنه خارج المجال السياسي المعتاد، وذلك ليس لأنه كان يتحدّث بالعربية الفصحى، بل لأنه اعْتُبِر، بصورة عامة، بمثابة صوتٍ من خارج النظام السياسي السائد، على الرغم من أن بعضهم اعتبره قريباً من المحافظين، ومن حركة النهضة بالذات، وتحدث آخرون عن يساريّته وتعلقه بشعارات الثورة التونسية، وهناك من تحدث عن منزعه العروبي.. لا تهمنا التوصيفات التي أُلْصِقَت به، والتي يمكن أن يُعَدَّ بالفعل جزءاً منها، ذلك أن بعض معالم أمور أخرى كثيرة ستتضح عند انخراطه في أداء مهامه الرئاسية. أما الإعلامي ورجل الأعمال الليبرالي نبيل القروي، فإن نجاحه في الطور الأول، وحصول حزبه على الرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، ثم توجيه تلك التُّهم إليه، يجعلك هذا كله يقف على السمات الخاصة التي وُضِع فيها كل منهما، وهي سماتٌ أطَّرت المناظرة، وعبرت عنها نتائج الانتخابات.
{ عن «العربي الجديد»
copy short url   نسخ
19/10/2019
672