+ A
A -
بقلم : إيمان راشد فارس كاتبة قطرية
ستة أعوام مضت على زواجهما..
ستة أعوام ومريم وسعيد بانتظار طفل يؤنس وحدتهما ويزهر بحياتهما..
ستة أعوام والأسئلة في ازدياد والأعين في ترقب والجميع ينتظر بلهفة وشوق..
ستة أعوام مضت كاد فيها اليأس يتمكن منهما.. ستة أعوام ومريم تلهث بالدعاء وسعيد يرفع الأكف تضرعاً كل ليلة..
لكن الله رحيم بعباده لطيف بهم، بعد مرور ستة أعوام رزقهما الله بطفلة آية في الجمال، رزقهما الله بنور ينير عتمة اليأس الذي كاد يفتك بقلبيهما، رزقهما الله بشمس ساطعة في ليلة حالكة، رزقهما الله بي.. ما أن وقع ناظر جدتي عليّ حتى اختارت لي اسم "هبة الله"، فأنا هبة من الله بعد هذه السنين الطوال العجاف، هبة من الله لتمطر الفرح في أرواحهم بعد سنين من الجفاف والقحط، في تلك الليلة التي قدمت بها زرعت جدتي شجرة سدر في فناء المنزل تعبيراً عن سعادتها وفرحتها بقدومي. ومن هنا بدأت حكايتي مع السدرة..
هذه السدرة ارتبطت بي وارتبطت بها.. أصبحت كشقيقتي التوأم.. أصبحت ملاذي في الطفولة..
أصبح بيننا نوع مميز من الشراكة والارتباط..
لم يرزق والداي بطفلة غيري، كنت وحيدتهما ومدللتهما، كنت هادئة جداً كهدوء ليلة قمرية منيرة، ذكية.. لماحة.. محبة للاكتشاف.. كنت أقضي معظم أوقات النهار تحت ظلال السدرة، شيء ما كان يربطني بها، ما إن أبتعد عنها قليلاً حتى يشدني الحنين إليها ثانية.
كنت أتحدث معها ويخيل لي إنها تجيبني، ألهو على أغصانها وأتخيل أنها تحتضنني، لكن أبي كان يتضايق لكثرة جلوسي معها والحديث مع نفسي لساعات طوال، يوماً عقد العزم على اقتطاع الشجرة، لأنه ظن أنني سوف أفقد عقلي بسببها، لكن جدتي أبت وتصدت له ولم تدعه يمس السدرة بسوء، انتصرت سدرتي وظلت شامخة..
كلما كبرت كبر معي تعلقي وصداقتي لها، لم يكن لدي أصدقاء غيرها..
كبرت وكبرت سدرتي حتى باتت تغطي معظم أنحاء فناء المنزل، ذات يوم بينما كنت أتسلق عليها كعادتي لاحتضنها وأستلقي على أغصانها إذ بقدمي تزل من مكانها وينكسر الغصن وأقع وأكسر ساقي، هاج أبي واستشاطت أمي خوفاً علي وغضباً من السدرة، جرى أبي مسرعاً ليحضر فأساً يقتطع به الشجرة، بكيت بحرقه واستنجدت بجدتي هرعت مسرعة استجابة لأدمعي، ومرة أخرى تنتصر السدرة..
كان يهيأ لي أحياناً كثيرة أنني أرى وجه جدتي المبتسم يرتسم على جذع الشجرة، جدتي التي استطاعت أن تكون أماً وأباً لأحد عشر طفلاً بعد وفاة جدي، كانت جدتي هي السدرة التي يجتمع تحتها أبنائها ويستظلون بها ويستمدون الحب والقوة منها كان حنانها يمتد كأغصان السدرة ليحتضنهم جميعاً ويبث في أنفسهم الأمان والعزيمة، كانت هي سدرة المنزل التي احتوتهم جميعاً واحتوت أبناءهم بعدما كبروا، كل منهم يستقل بحياته ويكون عائلة ويحظى بأبناء لكن لا أحد منهم استطاع أن يبتعد عن ظلال جدتي فمنها يستمدون الحياة.
لربما هذه هي الأسباب التي جعلتني أرتبط بالسدرة التي زرعتها جدتي، لأنني كنت أرى فيها جدتي وأرى حبها وحنانها واحتواءها وقوتها، كنت أشبه جدتي كثيراً بالهيئة الخارجية وبقوتها وفطنتها وحلمها وهدوئها، كانت تربطني أنا وجدتي والسدرة خيوط متشابكة سحرية تحركنا سوية، تربط قلوبنا مع بعضها البعض تجعلنا لا نستطيع أن نفترق، تربطنا بعلاقة قوية وغريبة. كانت جدتي حريصة على ارتباطي بالسدرة وبأن أظل قريبة منها وتحت ظلالها قدر المستطاع، أحياناً كثيرة كنت أظن أن جدتي كلما كبرت ومضى بها قطار العمر فإنها تستمد قوتها من هذه الشجرة، من أجمل ذكريات طفولتي مع جدتي هو كوب من الشاي نتناوله كل يوم في فيء السدرة فترة الضحى، كان له نكهة خاصة ما زال مذاقها الحلو في فمي.
كبرت جدتي ومرضت واشتد بها المرض لكنها لم تترك عادة الجلوس تحت ظلال السدرة إلى أن توفاها الله، توفيت جدتي وأنا شابة في الثامنة عشرة من العمر، حزنت لوفاتها أيما حزن لكنني كنت أواسي النفس بذكرياتي الجميلة معها.
رحلت جدتي وتركت لي أياما سعيدة عشناها سويا..
رحلت جدتي وتركت لي دروسا وعبرا..
رحلت جدتي وتركت لي سدرة ألجا إليها كلما فاض بي الشوق والحنين لها..
رحلت جدتي ورحل ظلها الذي كان يستظل به عائلة كبيرة سعيدة..
رحلت وتركت خلفها كنوزا من الحب والحكمة لنتشاركه جميعاً..
رحمك الله يا جدتي، كنتِ امرأة ليست كسائر النساء..
copy short url   نسخ
18/11/2019
1384