+ A
A -
سهام جاسم
هي عُقدةٌ من نوعٍ آخر تختلف تمام الاختلاف عن عُقدة أوديب التي أنشأ مفهومها سيجموند فرويد بوحيٍ ممتد من أسطورة أوديب الإغريقية، فعُقدة الأديب أمرٌ آخر سنتعرف عليه في السطور القادمة لكنّهما تشتركان معاً في جانبٍ واحدٍ فقط وهو مدى إحكام تلك العُقدة وصعوبة انفكاكها..
لكن كيف تكون لدى الأديب عُقدة وهو الذي يُخضِعُ كلّ ما هو معنوي وشفاف بل غير مرئي ليجعله غايةً في الوضوح..؟ وبعدها يبدعه في كلماتٍ تجعل له حيِّزاً من الوجود المُدرك والمُستوعب ليحظى بذلك الإحساس الجمعي المُتضامن ممن بلغه وممن لم يبلغ تلك القدرة على التقاط رقيق الشعور..
يقول د. عز الدين إسماعيل في كتاب الأدب وفنونه:
(يأتي دور الأدب في أنْ يُعَمِقَ فهمنا للحياة بأن يُطلعنا لا على عالم الرؤية الخارجي فحسب بل على العالم الداخلي الفكر والشعور كذلك....إنّه لاينقل إلينا الحياة كما هي نقلاً حرفياً، قد نقول أنّه ينقل إلينا فهم الأديب للحياة من خلال تجاربه الشخصية. وهنا نكون قد أدخلنا عنصراً جديداً يقوم عليه الأدب، فبجانب الحياة لابدّ من «فهم» الأديب لها..)
لننظر ملياً لتعريف الأدب ولنهب التأمل مساحته التي يستحقها لعبارة «فهم الأديب» كعنصر جديد يقوم عليه الأدب..
ألا ترى أنّها مهمةٌ شاقة «فهم الحياة» في وقتٍ يكثُر فيه مدعو الفهم والمعرفة والخبرة في كلّ شيء..؟
وحتى تُقَدم فهماً مُقنعاً للحياة من الممكن أنْ يُطلق عليهِ أدباً لابدّ أنْ يكونَ هنالك ذلك الأفق الواسع على أقل تقدير أن يتحقق ذلك في الركن الذي اخترته لمزاولة فعل الحياة..
كثيراً ما نقرأ أو نسمع عن أولئك الكُتّاب الذين لايُشبهون عالمهم المكتوب البتة وكأنّه من الواجب عليهم أنْ يُرفقوا عبارة توعوية تُطبع على كلّ مؤلفاتهم نصها كالتالي:
«لا تظن أنّك عندما تقرأ كتابي ستقرأني..!»
إذن ما ذلك الفكر الذي كنّا نقرأ..؟ وماذا عساه أن يكون ذاك الشعور..؟
ولمن يكون أدب الأديب إذا كان مفقوداً لدى الأديب..؟ هل هو انعتاقٌ من أسر الذات الحقيقية وتمثلها في ذاتٍ مُتقمصةٍ أخرى عند الكتابة..؟
قد لا تكون القصص والروايات أخباراً وتجارب منقولةً عنه..
قد لا تكون القصائد بتصويرها وخيالاتها، مراسلةً حسناء من موقع الحدث، لا ليس هذا ما نعني أو حتى ما نرمي إليه..
قد لا يكون هو كلّ أولئك، ولا هو بشيءٍ من هذا ولا ذاك..
وقد يكون كلّ ما قيل عنهم لا عنه هو..
ما هو دور الأديبِ إذن..؟ إذا لم تكن كلماته تُشبهه..؟
فهم الأديب لمجتمعه وتحويله لهذه الحياة التي تموج من حوله لمنحوتةٍ أدبيةٍ فنية ضمنها تفاصيل ملاحظاته الدقيقة ورؤيته العميقة، يبيِّن لنا الجانب الأشد تأثيراً لديه والأعمق تأثُراً من الحياة، وانعكاسه على ذلك النوع الأدبي الذي يُقدمه، فالأدب ليس بحالة هذيان غير واعٍ مطلقاً..
جزءٌ من الإنسان يتوارى خلف الراوي، وجزءٌ من القصيدة يتخفى خلف قائلها
بل إنّك ستميز حتماً بين تلك العاطفة الرقيقة، وتلك المُدعية، وبين الملاحظة الدقيقة وتلك السخيفة حين تقرأ لأحدهم..
وستنتظر بعد أن تقرأ شيئاً من تلك المواقف المعلنة في أدبه وذلك السخط الذي يُصرح به للحياة ويواجه بضراوةٍ تلك النماذج البشرية التي بدت كعشوائيات مُقحمة في وجوده..
ستظل منتظراً لترى أدب الأديب في ذلك الأديب... أليس كذلك..؟
ذلك لأننا لازلنا نرى في الأدب ذلك الرقي الإنساني الذي يسمو بالمجتمعات التي تحظى بأديبٍ تعتمده كخيرِ مُعَبِرٍعنها..
كلمـــة أخيـــــرة
أدب الأديب ليس بالأمر الهيِّن مُطلقاً تلك هي عقدة الأديب..!
copy short url   نسخ
18/11/2019
1515