+ A
A -
مركز الجزيرة للدراسات فاطمة الصمادي
في بحث لهما حول ثنائية الاحتجاج والثبات السياسي في الجمهورية الإسلامية، يرى غلام رضا خواجة سروي وسيد جواد حسيني أن الجمهورية الإسلامية كنظام سياسي واجهت قضية الاحتجاج السياسي. وأظهرت حالاتُ الاحتجاج التي جاءت بعد سنوات من انتصار الثورة نموَّ الحالة الاحتجاجية في المجتمع الإيراني، فقد شهدت إيران احتجاجات في الأعوام 1981 و1992 و1999 و2009 و2017 و2019، وبالرغم من وجود عنوان واضح لكل من هذه الاحتجاجات إلا أنها مع الزمن باتت مسألة متعددة الأبعاد بالنسبة للجمهورية الإسلامية، لكنها باتت واقعًا سياسيًّا لا يمكن إنكاره، كما لا يمكن إنكار مسبباته الداخلية، ولذلك نجد دعوات تقول بضرورة الإقرار بأنها حالة متزايدة تحتاج إلى مقاربة مختلفة غير الإنكار.
ولعل الملاحظة التي تُسجَّل هنا أن الوسط البحثي والأكاديمي قد بحث في الحالة الاحتجاجية بصورة مغايرة للمقاربة السياسية والأمنية من قبل المسؤولين، ويمكن رصد عشرات الأبحاث والرسائل الجامعية التي تناقش الفعل الاحتجاجي في إيران ومسبباته وآثاره خاصة فيما يتعلق بالاستقرار السياسي، ويخلص عدد كبير منها إلى أن الاحتجاجات السياسية واحد من أهم مؤشرات حالة عدم الاستقرار السياسي في الجمهورية الإسلامية. ويميل بعض الباحثين الذين قدموا مداخلاتهم في مؤتمر مركز الجزيرة حول إيران إلى القول بأن الإضرابات والاحتجاجات بسبب التضخم وتراجع الحالة الاقتصادية وتدني الرواتب هي جزء من أبجديات المجتمع الإيراني، وأنها حالة سياسية تعود في تاريخها إلى ما قبل الثورة. والمجتمع الإيراني في بنيته هو مجتمع احتجاجي، كما يصفه حسين بشيريه(4)، فضلًا عن ثقافة التشيع والبُعد الثوري والذي جرى الترويج له كَلُبٍّ للفكر السياسي الشيعي، ويمكن هنا العودة إلى ثورة المشروطة، وتأميم النفط وحركة مصدق، وثورة الغابة، وانتفاضة خرداد 1963، والثورة الإسلامية نفسها، وما تلاها من احتجاجات. يرتبط ذلك بصورة كبيرة بـ«الحق في الاحتجاج السياسي»، وعلى الرغم من أن ذلك مكفول في الدستور الإيراني في المادة 27 منه حيث تقر المادة بـ«حق الاحتجاج السياسي» للمواطنين، لكن تطبيق هذا النص يشوبه الكثير من اللبس والخلل.
في البحث عن الأسباب
كما أن الحالة الاحتجاجية متعددة الأبعاد فإن أسبابها متعددة أيضًا، وسوف نشير بصورة مركزة لأهم أسباب الحالات الاحتجاجية الأخيرة التي شهدتها وتشهدها الجمهورية الإسلامية:
أولًا: الحرمان والفقر
وهنا لا يمكن الحديث عن الاحتجاج كفعل سياسي عقلاني، بقدر ما هو فعل عاطفي شعبوي، ولذلك نجد أن التظاهرات سريعًا ما تتجه إلى تخريب الممتلكات العامة وفعل العنف، وعلى مدى العقود الماضية كانت دائرة الحرمان والفقر في الجمهورية الإسلامية تتسع، وهو ما مكَّن من نشوء تيار يوصف بأنه شعبوي هو تيار محمود أحمدي نجاد الذي توجه بصورة أساسية للطبقات المحرومة والفقيرة، وما زال إلى اليوم يمتلك تلك الخصائص الشعبوية ويوصف سواده الأعظم بالحرمان والفقر والإحساس بالتهميش والإقصاء. ولا تنكر الإحصاءات الرسمية الإيرانية اتساع رقعة الفقر والحرمان، ففي خطابه في مدينة كرمان مؤخرًا، قال الرئيس الإيراني، حسن روحاني: إن «الوضع الاقتصادي في البلاد أسوأ من سنوات الحرب التي استمرت لثماني سنوات وإن الأوضاع في البلاد غير طبيعية، وليس لدينا أموال لإدارة البلاد، ويعيش 18 مليونا من أصل 25 مليون أسرة في ظروف صعبة»(6).
ويقول ناصر موسوي لاركاني، عضو اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى: إنه بالنظر إلى مؤشر خط الفقر، فإن 55% من الأسر الإيرانية هي تحت خطر الفقر، ورغم الاختلاف في الإحصاءات إلا أنها تكاد تُجمع على أن 40% من الإيرانيين يرزحون تحت خط الفقر.
وبالموازاة، يتحدث تقرير مركز الإحصاءات الإيراني عن بطالة تصل إلى 12%، وأن عدد العاطلين عن العمل في إيران يتجاوز الـ3 ملايين و200 ألف شخص ممن هم في سنِّ العمل، وتزيد نسبة البطالة في الفئة العمرية 15-29 عن 25%.
في يناير 2018، شهدت طهران مؤتمرًا لمناقشة الاحتجاجات التي شهدتها إيران بمشاركة مفكرين وقادة حزبيين، وسادت حالة من الإجماع بين المشاركين على أن المجتمع الإيراني يخضع لتغييرات اجتماعية سريعة وواضحة، وأن مشكلة إيران الحقيقية الآن تتمثل في الاقتصاد، وأن مشكلة الاقتصاد ترجع في نهاية الأمر لأداء الحكومة السيئ، ومسؤولية السياسات الحكومية وفشلها المتعاقب في الوفاء باحتياجات الناس، وخاصة الشباب منهم. ويزيد من تعقيد حالة الحرمان والفقر أنها تتركز في المحافظات الحدودية التي توجد فيها الأقليات: العرب والأكراد والبلوش.
ويرتبط ذلك بصورة كبيرة بالفجوة بين الشعار والواقع، فما تحقق في إيران اليوم مقارنة بالشعارات المطروحة قليل جدًّا.
ثانيًا: صراع الأجنحة وتضاد الخطاب
وهي حالة ليست بالجديدة ولا تتعلق بإقصاء التيار الإصلاحي فقط ولا بما أعقب احتجاجات الحركة الخضراء في 2009، فحالة صراع الأجنحة رافقت الجمهورية الإسلامية على مدى أربعة عقود، فبعد وصول الثورة إلى غايتها، كان الائتلاف الذي تشكَّل في السابق يأخذ بالانهيار، وبدأت الخلافات التي ظلت كامنة بعض الوقت من أجل إسقاط الشاه تظهر، وبدأ، غداة انتصار الثورة، وبالتدريج، التضارب في المصالح بين الجماعات السياسية، ومن داخل الثورة التي انتصرت بتحالف قوى عدة، استطاعت القوى الدينية، ومن خلال قيادة ذات كاريزما عالية، أن تقتنص الفرصة وتستفيد من ضعف القوى الأخرى، وتمسك بزمام السلطة السياسية، لكن إحكام القبضة على السلطة السياسية، لم يكن ليتم إلا باستبعاد وإقصاء المنافسين من الساحة، وفي نهاية المطاف كانت الحكومة ذات الصبغة الإسلامية تثبِّت أركان الجمهورية الإسلامية في الثمانينات من القرن الماضي.
لم ينتهِ الصراع بشأن السلطة مع سقوط الشاه وعودة آية الله الخميني منتصرًا من المنفى، في سنة 1979، وقيام الجمهورية الإسلامية، وإنما استمر ذلك طوال الثمانينيات، وشهدت هذه الفترة انهيار تحالفات القوى التي أسقطت الشاه. ففي البداية تمت المواجهة مع الليبراليين، ثم انتقلت إلى اليساريين (من العلمانيين والإسلاميين)، وهي المواجهة التي انتهت بفوز «روحانيون مبارز» («رجال الدين المقاتلين») في كلتا الحالتين. ولاحقًا، كانت «القوة المنتصرة» تدخل هي الأخرى في صراع وانقسامات ما زالت قائمة إلى اليوم. ولم تأتِ حالة الاحتجاج في 2009 على سبيل المثال بعيدًا عن (صراع رفسنجاني-أحمدي نجاد)، وكذلك الحال في 2018 في مشهد؛ إذ جاءت في جزء كبير منها في إطار الصراع ضد روحاني من قبل تيار أصولي يسعى لإقصاء الرجل الذي دخل اسمه مع الاتفاق النووي إلى قائمة الخلفاء المحتملين لمرشد الثورة الإسلامية، علي خامنئي.
وينفع هنا العودة إلى ما كتبته صحيفة «كيهان»، قبل أيام قليلة من اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، فقد تحدثت الصحيفة ذات الخط الأصولي الواضح عمَّا وصفتها بـ«التناقضات» الواردة في تصريحات روحاني في كلٍّ من يزد وكرمان ورفسنجان، واعتبرت الصحيفة أن روحاني يحاول بهجومه على السلطة القضائية (التي يرأسها إبراهيم رئيسي، أحد المرشحين البارزين أيضًا لخلافة خامنئي)، الفرار من الإجابة على مطالب الشعب الذي سأله في يزد عن عمل حكومته، وأضافت الصحيفة أن المحتجين الذين هتفوا أثناء خطاب روحاني في يزد، كانوا يأملون بشعاراتهم «دَفْع الرئيس إلى أن يجيب على وعوده الاقتصادية التي قدمها قبل انتخابه»، وقالت الصحيفة: إن هؤلاء المواطنين «لا يريدون أن يذهب روحاني للهوامش في تصريحاته، فضلًا عن أن يخلق توترًا سياسيًّا في البلاد»، كما أن «روحاني طمأن الغرب بعدم نية إيران الخروج من الاتفاق النووي، بدلًا من أن يشجع الناس على الوفاء بعهودهم التي لم تقم حكومته أصلًا بالوفاء بها».
وتعليقًا على تصريحات سابقة لروحاني، وجدت الصحيفة أنها تحمل «رسالة للغرب مفادها أن الخطوات النووية الأربع التي قامت بها إيران خلال الأشهر الماضية لم تكن للضغط عليهم لتنفيذ تعهداتهم وإنما كانت خطوات استعراضية فقط».
ثالثًا: العامل الخارجي:
ويمكن هنا بيانه ضمن سياقين:
أ- الفعل الخارجي الإيراني: صحيح أن حضور إيران في الخارج، وعلى امتداد ساحات مختلفة يأخذ عناوين ثورية أيديولوجية واضحة، إلا أن اللجوء إلى الإطار الأيديولوجي وحده لا يساعد في تفسير السلوك السياسي الإيراني، بل إنه في جوانب كثيرة يفضي إلى تناقضات تجعل مسألة الفهم والتفسير عسيرة، وربما يكون من الأجدى اللجوء إلى علم السياسة لفهم وتفسير السلوك السياسي الخارجي الإيراني، وفي مقدمته الدعم الذي تقدمه إيران لحلفائها في الخارج على الرغم من الأزمة التي يعيشها اقتصادها، وهو سؤال بقي مطروحًا ويعاد طرحه مع كل عقوبات كانت تواجهها إيران. ويمكن بصورة أساسية التوقف عند نظرية الدور، انطلاقًا من كون السياسة الخارجية الإيرانية باتت محكومة بثنائية التهديد والفرصة.
ويشكِّل البحث الإيراني عن دور إقليمي ودولي معترف به مدخلًا مهمًّا لمعرفة خلفيات إصرار صانع القرار الإيراني على مواصلة تقديم الدعم للحلفاء في الخارج؛ وذلك على الرغم مما تعانيه البلاد من وضع اقتصادي حرج كانت العقوبات المفروضة على إيران منذ عقود أحد أسبابه المهمة.
وبالعودة إلى نظريات سلوك الدولة (Theories of state behavior)، التي تسعى لفهم سلوك الدولة وشرح دوافع ومحركات هذا السلوك الخارجي؛ الذي يرتبط بصورة كبيرة بالمحيط الذي يحيط بتلك الدولة وتتحرك داخله ومن خلاله، نجد أن طبيعة العلاقات التي حكمت إيران بمحيطها الإقليمي وعلى وجه التحديد بجيرانها العرب تغيب عنها الثقة، ويرافقها شعور التهديد المتبادل. لا يمكن التقليل من المقولات الأيديولوجية التي رافقت سلوك إيران الخارجي، لكن عصا النفوذ الإيراني في الخارج لها مآرب أخرى، قد تتفوق على الشعارات.
وتبدو نظرية الواقعية الكلاسيكية (Classical Realism)، مفيدة على هذا الصعيد؛ خاصة فيما يتعلَّق بالهدف، فهي تجادل بأن البحث عن القوة والأمن هو هدف كل الدول، وهو المحرك الأساسي لسلوك الدولة، ويُظهر الأداء السياسي الإيراني ميلًا واضحًا للتركيز على «القوة والأمن»، ولتحقيق هذا الهدف تسعى إيران إلى زيادة قوتها بالتزامن مع إضعاف الخصوم والأعداء، في سعي واضح لترجيح كفتها في ميزان القوى الإقليمي (تشكِّل الحالة اليمنية مثالًا واضحًا على هذه الحالة)، وعليه فإن مجمل أداء إيران يأتي في إطار جمع ومضاعفة عناصر القوة، ويجري النظر إلى كل دولة من الدول الأخرى كمنافسين؛ باعتبار أن القوة إذا لم تكن في يد الدولة ذاتها فهي خطر عليها.
لكن الفعل الخارجي لإيران مكلِّف اقتصاديًّا وسياسيًّا، ويثير حنق فئات داخل إيران ترى أن فقراء إيران أولى بالدعم من حزب الله وحماس وسوريا، مع مقولة: «المصباح الذي يحتاجه البيت يحرم على الجامع».
في إيران، هناك قناعة راسخة في أذهان صنَّاع القرار بأن حضور إيران في عدد من الملفات الإقليمية وما يرافق ذلك من أعباء اقتصادية هو ضرورة لابدَّ منها لضمان أمنها القومي، وبالإضافة إلى مقتضيات الأمن، تذهب إيران إلى أبعد من ذلك ولا تخفي سعيها لتوظيف هذا النفوذ لتغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتأثير على ميزان القوى بما يصب في صالح دورها الإقليمي، وموازنة التهديد الإقليمي والدولي وتحسين وضعها التفاوضي فيما يتعلق بعدد من الملفات؛ ولذلك، ورغم الكلفة العالية وإحكام حلقة العقوبات، ستواصل إيران تمويل وجودها الخارجي، والإنفاق على حلفائها في المنطقة.
ب- فعل المعسكر المعادي لإيران: وتتزعم الولايات المتحدة الأميركية هذا المعسكر، وأسهمت سياستها تجاه إيران في إيجاد الحالة الاحتجاجية ببُعديها، الاقتصادي والسياسي، خاصة مع دورات متعاقبة من العقوبات التي وصلت مؤخرًا إلى النفط، انخفضت صادرات إيران من النفط الخام من 2.5 مليون برميل يوميًّا، في 2017، إلى مليون برميل يوميًّا، في نوفمبر 2018، لتتعافى مؤقتًا وترتفع إلى 1.5 مليون برميل يوميًّا، في فبراير 2019. وبعد رفض تجديد الإعفاءات الأميركية لثماني دول لاستيراد خام النفط الإيراني بهدف تصفير الصادرات، هناك توقعات بتراوح الصادرات الإيرانية بين 300-650 ألف برميل نفط يوميًّا. وترتبط العقوبات بصورة معلنة بمقولة: «السعي لتغيير السلوك السياسي لإيران».
ويرصد الباحث، تامر بدوي، في ورقة سابقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات وحملت عنوان: «العقوبات الأميركية مجددًا: التأثيرات وحدود مرونة الاقتصاد الإيراني» تأثير دورات من العقوبات التي فُرضت على إيران منذ انتصار الثورة وإلى اليوم، إذ تعتبر هذه العقوبات نتاجًا لعقود من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على طهران.
ويتحدث تقرير لمجموعة الأزمة الدولية حمل عنوان «شبكة العنكبوت: صناعة وتفكيك العقوبات على إيران»، وصدر في فبراير 2013، عن ثلاث مراحل مرَّت بها العقوبات على إيران:
المرحلة الأولى: تمتد من 1979 إلى 1995، وقد استهدفت خلال هذه الفترة إيران على خلفية أزمة الرهائن الأميركيين، والسلوك المعادي لواشنطن، ودعم طهران لمجموعات عنيفة.
المرحلة الثانية: تمتد من 1995 إلى 2006، وقد استهدفت خلال هذه الفترة إضعاف نظام الجمهورية الإسلامية من خلال استهداف قطاع النفط والغاز ومحاولة منع النظام من الحصول على تقنيات حساسة تساعده على تطوير برنامج نووي وصاروخي.
المرحلة الثالثة: تمتد من 2006 إلى 2010 وتستهدف طهران اقتصاديًّا على خلفية تطوير برنامجها النووي، وتأتي العقوبات الأميركية في هذه المرحلة في سياق حِزم عقوبات أوسع فرضتها دول أخرى صديقة لواشنطن (بالتنسيق معها) وعقوبات أممية.
المرحلة الرابعة من العقوبات: وبالنظر إلى الانتكاسة التي مُني بها الاتفاق النووي، يمكن إضافة مرحلة رابعة من العقوبات، بدأت مع مجيء ترامب إلى السلطة وتستمر إلى اليوم وتأخذ عنوان «الضغط الأقصى على إيران» مع هدف بتصفير تصدير النفط الإيراني، ويمكن وصف هذه المرحلة بأنها «حرب اقتصادية ضد إيران»، فـ«الحرب الاقتصادية» هي التوصيف الأدق للفعل الأميركي تجاه إيران اليوم، وقد يكون سيناريو الحرب الاقتصادية الشاملة هو الأرجح على صعيد التطبيق، وهو يقوم على مجموعة محاور:
أ - العقوبات الاقتصادية الشاملة: وهو ما يعني حرمان إيران من الاستفادة من مقدراتها خاصة تلك التي يتكئ عليها دخلها القومي، وهي النفط والغاز، وهو ما يجري تطبيقه اليوم، في إطار تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، ويعزز من تأثير ذلك الريعية في الاقتصاد الإيراني. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي بشأن النمو الاقتصادي لإيران في (2019- 2020) إلى انكماش كبير بفعل العقوبات، ويتوقع الصندوق تراجع معدل النمو من +4% في تقرير إيران السنوي لعام 2018 إلى -6% في أبريل 2019، وهو المعدل الأسوأ منذ عام 2012. وسواء كان الحرس الثوري يسيطر على10 إلى 30%، وفق بحث لكاميار مهندس، أو 60%، وفق كيفان هاريس، من الاقتصاد الإيراني فهو من أكثر الفئات المستهدفة على صعيد العقوبات هذه، خاصة أن نشاطه الاقتصادي يتركز في قطاعات النفط والغاز. وهذا التحدي يحتم على إيران إيجاد مقاربات جديدة للالتفاف على العقوبات وتحمل تبعاتها، خاصة أن ذلك يترافق مع معدل بطالة يقارب 13% ويتركز في الفئة العمرية الشابة.
ب - حظر التعامل الاقتصادي مع إيران: ويضمن ذلك سلسلة عقوبات أميركية تجعل الشركات محجمة عن التعامل التجاري مع إيران خوفًا من العقوبات، وهذا ينطبق على الشركات الأوروبية والصينية والهندية التي انسحبت تباعًا عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ويعمِّق من معضلة العملة الإيرانية -التي فقدت 60% من قيمتها خلال العام الأخير- أن صرف العملة الصعبة، وخاصة الدولار الأميركي، متأثر بصورة جوهرية بتراجع العائدات القادمة من صادرات النفط الخام والصادرات غير النفطية.
ج - مأزق التحويلات البنكية: في 22 فبراير 2019، أعطت مجموعة العمل المالي (FATF)، إيران أربعة أشهر أخرى، مهلةً لإجراء التعديلات اللازمة لمكافحة غسل الأموال والدعم المالي للإرهاب. ووفقًا لما أعلنت (FATF)، فإن إيران تبقى خارج القائمة السوداء حتى يونيو 2019، بانتظار قبول انضمام طهران للمعاهدة الدولية، و«إذ لم تُفعِّل إيران التشريعات المتبقية بحلول يونيو 2019 بما يتماشى مع معايير (FATF)، عادت المجموعة في يونيو 2019 وأعطت إيران، مهلةً جديدة حتى أكتوبر 2019 لتعزز الإجراءات لمكافحة تمويل الإرهاب وتبييض الأموال حتى تتطابق مع المعايير الدولية في هذا المجال» وأعقبتها بمهلة أخرى حتى مطلع 2020.
ووفقًا لما أعلنته (FATF)، فإن إيران تبقى خارج القائمة السوداء، بانتظار قبول انضمام طهران للمعاهدة الدولية، وتشترط الدول الأوروبية وفاء إيران بمتطلبات المجموعة لتتمكن من تفعيل القناة المالية الخاصة بالتحويلات البنكية مع إيران. ولذلك، ستبقى عقبة التحويلات البنكية لإيران، قائمة إلى إشعار آخر، مع وجود رفض قوي لمتطلبات مجموعة العمل المالي داخل إيران خاصة فيما يتعلق باتفاقية غسيل الأموال ودعم الإرهاب.
د - التأثير السياسي والاجتماعي: في كتابه «إعادة النظر في العقوبات الاقتصادية»، الذي أصبح مرجعًا أساسيًّا لدعاة الحفاظ على نظام العقوبات، يدافع غاري هوفباور وفريقه وهم من أصحاب الباع في دراسة العقوبات، عن تأثير وجدوى العقوبات في السياسة الخارجية. ومع ذلك، فإن نتائج دراستهم لـ200 حالة من العقوبات (منذ الحرب العالمية وإلى اليوم) تقول بأن ثلث هذه الحالات فقط قادر على تغيير سلوك الطرف الواقع تحت هذه العقوبات، بل إن باحثين آخرين يقولون بأن النسبة تقل عن ذلك بكثير وهي في حدود 5%، وفق ما يشير إليه کريستيان فون زوست، رئيس وحدة دراسات الأمن والسلام في معهد لايبنيتس.
لا يمكن إغفال تأثيرات العقوبات على المجتمع الإيراني، وفي دراسة أجرتها أعظم رجبي لنيل درجة الماجستير في جامعة طهران بعنوان: أثر العقوبات على الرفاه الاجتماعي للناس، كان موضوع البحث والغرض الرئيسي منه هو دراسة تأثير العقوبات الاقتصادية على الرفاه الاجتماعي للناس، وجرى تجميع البيانات باستخدام طريقة المسح وتقنية الاستبيان.
كان مجتمع الدراسة هو الأسر التي تعيش في طهران، وجرى استهداف الشخص العائل لهذه الأسر. تُظهر النتائج أن ظروف معيشة الناس قد ساءت بعد العقوبات، وانخفضت قوتهم الشرائية ودخلهم، وانخفض مقدار وصول الناس إلى بعض السلع، فضلًا عن الظروف الصحية والطبية ونوعيتها التي تراجعت عمَّا كانت عليه قبل العقوبات.
ترى ندوة أخيرة عقدتها جمعية علماء الاجتماع الإيرانيين، في طهران، أن العقوبات التي استهدفت عدة حلقات، أهمها: حلقة القيادة ومتطلبات الحياة والبنى التحتية والمجتمع والقدرات الدفاعية، تركت أقل الأثر على حلقة القيادة (حلقة صناعة القرار)، وأمضى الأثر على حلقة المجتمع ومتطلبات الحياة، وأن العقوبات وجَّهت ضربة شديدة للطبقة المتوسطة في إيران، في حين أسهمت سياسة الدعم -إلى الآن- في تماسك الطبقة الفقيرة، أما الطبقة المترفة فوظفت حالة الغلاء لمزيد من المكاسب في دولة كانت العدالة الاجتماعية شعارًا بارزًا في ثورتها.
{ باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات، متخصصة في الشأن الإيراني
copy short url   نسخ
20/11/2019
759