ليس في مقدورنا أن نهوى أو لا نهوى، ولكن في مقدورنا أن نسيطر على هوانا، فهذه هي الفضيلة، فالرجل الذي يحب زوجة رجل آخر ليس آثماً ما دام يُخضع هذه العاطفة الشقية لسلطان الواجب والضمير، ولم يُهدر كل اعتبار شرعي في سبيل ذلك الحب، فكن رجلاً وتحكم في قلبك. (روسو)
رغم أن هناك إشارات واضحة من روسو، لاقتحام العلاقات غير الشرعية للحواضر الأوروبية، بل هي حالته الشخصية مع تيريزا وكان يعيشها صديقه دنيس ديدرو، فهذا يعني أن المجتمعات قد تمردت بالفعل على الزواج الشرعي، وتوسعت فيها العلاقات غير الشرعية بين الجنسين.
إلا أنها كانت متوارية عن الإفصاح العام، ومدانة من قبل العُرف..
وديدرو فيلسوف فرنسي 1713 – 1784 له علاقة صداقة خاصة ومشتركات فكرية مع روسو قبل أن يغضب عليه روسو في آخر حياته ويتهمه باستهدافه لصالح السلطة، وهو أحد الفلاسفة المتمردين الأوائل على الكنيسة.
الاجتماعي والقانوني، بحسب إشارات روسو نفسه، هنا كان روسو يقدم لنا صورة متضادة، حين يستدعي بيئة الريف الفرنسي، وهو يؤكد أن هذه القيم هي الخليقة بصناعة أجيال المستقبل، أسر فطرية مؤمنة بالله، تصبغ جيلها بالفضيلة والعفة، وتربي بناتها على أولوية تأهيل الزواج.
وحتى العلاقة الرومانسية الأولى بين صوفي وإميل، تُلاحظ أن روسو كمربي يعلن عن مذهبه في الرواية، فيجمع بين مشاعر الشوق الحميمي والذي يخلق أرضية حب وتعلق مهمة، وبين الحفاظ على مسافة بين العشيقين المخطوبين، ومراعاة الفتاة الدقيقة لتعاليم أمها في العفاف، حتى يأتي موعد الرباط، وتُضرب أجراس الكنيسة للعقد الزوجي المجلل بدين الفطرة.
فتقف مذهولاً أمام حكاية روسو، ماذا لو بُعث اليوم في زمن التنوير الأخير، وعلمت عنه الحداثة المتوحشة بكل تفاصيلها كمرتد عن عالمها في تسليع الإنسان، وتحطيم الأنثى ورفض الإطار الأخلاقي للعلاقة الجنسية، هل سيكون مصيره كمصير فولتير؟
اخترع روسو هذه الصدمة القوية في وجه فتاه إميل، ليمهد لقاعدة الانطلاق الأخيرة للعقد الاجتماعي، يؤكد هذا الفصل الأخير من كتاب إميل ارتباط روسو النفسي والعقلي، بميثاقه السياسي الذي انتصب أمام ضميره في رحلة معاناته المزدوجة، من المجتمع والدولة الملكية المسيحية، ومن خلال فساد شريحة النبلاء الأرستقراطيين، ومشاعر الكراهية التي حملها روسو تجاههم، وارتباطهم بقاعدة الحكم الدينية الاجتماعية المشتركة، التي حاربها روسو بكل إصرار، وكانت توقيعات معاناته النفسية حاضرة بعمق.
يطرح هذا المدخل مراجعات ضرورية لفكر روسو التربوي، ليس من خلال رفضنا لسعي روسو لروح الصناعة الأخلاقية للنظام الاجتماعي، والعقيدة التربوية لتكون أساساً صالحاً لجيل أفضل، ولعدالة ومساواة تعتمد شرعية فاضلة فوق نزوات البشر، وهذا ما لم يتحقق لروسو، في أجيال فرنسا اللاحقة.
ولكن القضية هنا في غلبة هذه المشاعر على صياغة فلسفته، وبالتالي أهمية إعادة النظر في قواعده التربوية، وهل يُربَّى الأطفال على مبادئ ثورية، كما جرى في معسكرات الاشتراكيين، في دول محور وارسو وفي آسيا وإفريقيا، وفي أميركا اللاتينية، رغم أن معسكرات روسو الافتراضية والتي نصبها لحياة إميل، تتخذ مساراً ليبرالياً ثورياً اجتماعياً، تشكل من خليط منسجم في رؤية روسو، لكنه متضاد أحياناً، بسبب غلبة هذا الهدف على مصالح الطفولة.
إن هناك مساحة تبرير ذات مصداقية عُليا، يمكن أن تُطرح للدفاع عن روسو، وهي أن روسو حرص على زرع الصدق والكفاح، واعتماد الذات وكفاح عرق الجبين، ونقض الرسوم الاجتماعية الطبقية، لضمان صناعة نبل أخلاقي يتخرج منه إميل، قدّم فيه منظومة مبادئ مميزة، لكن ذلك لا يكفي، لضمان دقة أفكاره وقد وقفنا سابقاً على عدد كبير منها، وناقشناها في حينه.
إن حياة الطفولة تحتاج إلى حمايتها بالمبادئ العُليا، التي تشكلها المعرفة الأخلاقية، دون أي نزعة مصالح رأسمالية ولا ثورية، وإن أثّرت في روح الطفل النامي، تنشئته الرشيدة في حضون المبادئ، وثَبّتَت قوة وعي تقوده ليكون عنصر عطاء إيجابي، يساهم في بناء مجتمعه وصيانته، ويرفض التحول إلى رقم في كتلة الفساد المجتمعي أو القمع السياسي، أو الطبقية النفعية.
لقد قفز روسو إلى موقف الصدمة في قصة حب إميل وصوفي، كي ينتقل إلى مقدمة العقد الاجتماعي، وكأنه يعلن أن الشباب المؤمن بهذا الميثاق، لا بد أن يصمد أمام كتلة العواطف ويتجاوزها، ويمضي في واجبات الثورة، وحينها لم تكن للثورة معالم تنظيمية ولا لوجستية على الأرض، ومع ذلك تفاعلت مبادئ روسو، وسُميّت بإنجيل الثورة الفرنسية، ثم انتشرت في أوروبا وأمريكا الشمالية، فهل كانت هذه الكوادر من الشباب ومن ثوار النبلاء في فرنسا، على دراية بوثيقة روسو، وخضعوا في حياتهم، لدستوره التربوي؟
مهنا الحبيل باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية