يمثل التوجه الروسي الدموي، الذي حسم قضية ما تبقى من ميدان الثورة السوري، في الجبهة الجنوبية، والتي ترتكز على محافظة درعا، المحاذية للحدود الأردنية، نموذجاً لفهم طريقة التعاطي الروسي، الحريص على تعزيز تقدمه في المشرق العربي، كما أنه يشير إلى أن موسكو، لن تغيّر من زحف خوذاتها الحمر، على المنطقة، بناءً على الصراخ الأميركي الذي أعقب، قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، ومحاولة فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخروج منها، وتسويق نفسه في الإعلام الأميركي، كمستعيد لأجواء الحرب الباردة مع الروس.
فالقيصر الجديد في موسكو، لم يمنح فرصة لهذا التراجع أو التكتيك، وقد وضع عينه على مسار الحصاد، لحرب سوريا الذي منح له الأميركيون التقدم فيه مرتين، عبر أوباما وعبر ترامب، فيما تكفلت أنظمة عربية وإقليمية، بخدمة المشروع الروسي والأميركي المشترك، من خلال تفتيت الميدان، وتمكين السلفية الجهادية، من اقصاء الجيش الحر، الذي تحوّل بعد ذلك لمجرد فرق مساندات محدودة، لمشاريع ميدانية لهذا الطرف أو ذاك.
ونحن نذكّر هنا، بأننا نتناول زاوية هذه المعركة، من خلال واقعها الإنساني وامتدادات المعركة السياسية، وليس لكونها جزءًا من معادلة صراع الثورة والنظام، فالثورة أُنهيت ميدانياً على الأرض، وما تحتاجه لأجل حماية شعبها وبقاء مبادئها، سبق أن حددناه، في دراسات أخرى.
إذن اليوم قرر الروس حسم بقية الميدان، والبدء بسلسلة مذابح ممنهجة، لم تغيّر فيها أجواء المونديال حركة سفك الدماء، التي نُفّذت عبر النظام وعبر القوات الروسية، وأعطت موسكو إنذاراً مباشراً، لفصائل الجنوب، إما الاستسلام، أو مواجهة الأرض المحروقة، وهو ما يحتاج ثوار الجنوب تقديره جيداً، في ظل التواطؤ العالمي والإقليمي والعربي، على تصفية الثورة.
فهنا قضية المراهنة على حرب موسمية، مهما بلغت التضحيات من المقاومة، لن تُغيّر المعادلة على الأرض، ولن تضمن بقاء الجنوب بعيداً عن جيش النظام.
إن ما جرى خلال السنوات الأخيرة من عمر الثورة، لم يكن تحريراً للجنوب السوري، وإنما كان الوصول لهدنة ترعاها الأردن بموافقة أميركية، خضع لها النظام في حينه، مقابل سلامة الجنوب من الحرب واجتياح السلفية الجهادية، وأصل هذا الواقع كان مبنياً، على فشل مشروع الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي الأسبق في واشنطن، بتهيئة الجنوب لقوات مستقلة عن فصال الثورة، تخضع مباشرةً لتفاهمات سعودية أردنية أميركية، غير أن المشروع فشل مبكراً، وتعرضت العلاقات السعودية- الأردنية في حينها لأزمة.
حين اعتبرت الرياض، أن الأردن نسّق مع النظام لأجل إفشال هذا المشروع، قبل أن يتضح أن واشنطن، هي من قامت بتشجيع الأردن على ذلك، حيث كانت عمّان تخشى من توريطها بجبهة مشتعلة، وليس لديها قدرة لخوض التجربة التركية على حدودها، وبالتالي انتقل فشل مشروع الأمير بندر، إلى تكريس هذه التفاهمات على الأرض، التي رعاها الأميركيون والروس، بين دمشق وعمّان.
واشكالية الأردن هنا، أن موسكو اختارت وقتاً دقيقاً لإسقاط هذه التفاهمات، والحسم الدموي ضد الجنوب، مستثمرة أخطر مرحلة وصل إليها الأردن، في وضعه داخل فك الكمّاشة، في مسار التصفية المتصورة لفريق الرئيس ترامب للقضية الفلسطينية.
وإفهام عمّان، بأن مسألة احتضان الفائض البشري للشعب الفلسطيني، الذي هجرته الحركة الصهيونية، ستتحملها الأردن، سواءً كان وطنا بديلاً للأرض المحتلة، أو شراكة مع جمهورية رام الله التي يُعد لها كوشنير.
ولا نعرف مساحة تطبيق هذه الرؤية الأميركية، غير أن الأردن، الذي حاول أن يواجه الفواتير الصعبة الملزمة له، عاد للتفاهم مع التحالف الأميركي، وجسوره مع محور ابوظبي/الرياض، حول مستقبله السياسي وإنقاذ وضعه الاقتصادي، كل ذلك بالطبع وضع العهد الملكي الأردني، الذي واجه احتجاجاً شعبياً اقتصاديا، أمام قضيته المصيرية، والتي لم تعد تشكل لها تفاهمات درعا، أولوية استراتيجية، أمام قضية الوطن البديل.
وهي لحظة فارقة أدركها الروس فنفذوا ضربتهم، وإن كانت قضية اللاجئين المتدفقين من الجنوب، هي أيضاً، تُمثل تحدٍ كبير لحكومة الأردن، والتي غالباً، ستنتهج سياسة الملك حسين، في دحرجة الأزمات، حتى زحزحتها عن خريطة الأردن الجغرافية، وإن كانت تداخلات المرحلة أضحت اليوم أكثر تعقيداً، من تلك العهود، وأن ما تواجهه عمّان، ربما كان أكبر من قدرات تاريخ نشأتها السياسي.
وبالطبع في الملف الإنساني، يفاقم الغرور الروسي ضريبة الدماء، في ظل عجر متتالي، لما تبقّى من فصائل الثوار في الشمال أو الجنوب، والهياكل السياسية، عن أي قدرة لصناعة ردع نسبي أو توازن، ولا يرغب الروس بترك أي مساحة، لمفاوضات جنيف أو غيرها، فقط الهدف تهيئة المشهد أمام استكمال مسار أستانة، وتطويره لصالح النظام على الأرض.
ويُدرك الروس اليوم، بأن الاتفاق الإقليمي مع طهران وأنقرة، قد ثُبت على الأرض في مناطق الشمال، وأن التفاهمات التركية /الروسية، لا ترغب أنقرة في فقدان زخمها، بناءً على مصالح جيوسياسية تستعد لها تركيا، بعد حسم قوي للانتخابات لصالح الرئيس أردوغان، وتحالف العدالة واليمين القومي المتشدد.
وهو مشروع يتوجه للتنسيق مع الروس، لتعزيز قدرات تركيا في مناطق الأمة التركية، أي القوميات المتصلة بتركيا، في آسيا الوسطى وجمهوريات روسيا الفدرالية، لتكون ظهيراً اقتصاديا، يضاف إلى التحالف الجديد مع موسكو، وبالتالي تستبق أنقرة أي حملات غربية وأميركية، تسعى لتطويق النصر الانتخابي الجديد في أنقرة، ثم تخضع للتعامل المصلحي معها، بناءً على نجاح تركيا، في تأمين مساحة كبيرة، لعالمها الجديد، خارج أرض الروم الغربيين.
إن هذه الخلاصات، تعيد التأكيد ليس لقوى الثورة السورية المنهارة، وحسب، بل لكل حركات التحرر والاستقلال، لشعوب الشرق، التي تعاني من نُظم إرهابية متعددة، بأنّ هذه المرحلة لا يوجد فيها مطلقا، أي قدرات أو توازنات تسمح لها بالصمود، وأن مهمة اليوم تأمين المدنيين وسلم الشعوب، وصناعة فكر استراتيجي، يوقظ مدارات الوعي الفكري، الذي يمهد الطريق أمام فكر الإنقاذ السياسي، حين يأتي زمنه المؤكد.
بقلم : مهنا الحبيل
فالقيصر الجديد في موسكو، لم يمنح فرصة لهذا التراجع أو التكتيك، وقد وضع عينه على مسار الحصاد، لحرب سوريا الذي منح له الأميركيون التقدم فيه مرتين، عبر أوباما وعبر ترامب، فيما تكفلت أنظمة عربية وإقليمية، بخدمة المشروع الروسي والأميركي المشترك، من خلال تفتيت الميدان، وتمكين السلفية الجهادية، من اقصاء الجيش الحر، الذي تحوّل بعد ذلك لمجرد فرق مساندات محدودة، لمشاريع ميدانية لهذا الطرف أو ذاك.
ونحن نذكّر هنا، بأننا نتناول زاوية هذه المعركة، من خلال واقعها الإنساني وامتدادات المعركة السياسية، وليس لكونها جزءًا من معادلة صراع الثورة والنظام، فالثورة أُنهيت ميدانياً على الأرض، وما تحتاجه لأجل حماية شعبها وبقاء مبادئها، سبق أن حددناه، في دراسات أخرى.
إذن اليوم قرر الروس حسم بقية الميدان، والبدء بسلسلة مذابح ممنهجة، لم تغيّر فيها أجواء المونديال حركة سفك الدماء، التي نُفّذت عبر النظام وعبر القوات الروسية، وأعطت موسكو إنذاراً مباشراً، لفصائل الجنوب، إما الاستسلام، أو مواجهة الأرض المحروقة، وهو ما يحتاج ثوار الجنوب تقديره جيداً، في ظل التواطؤ العالمي والإقليمي والعربي، على تصفية الثورة.
فهنا قضية المراهنة على حرب موسمية، مهما بلغت التضحيات من المقاومة، لن تُغيّر المعادلة على الأرض، ولن تضمن بقاء الجنوب بعيداً عن جيش النظام.
إن ما جرى خلال السنوات الأخيرة من عمر الثورة، لم يكن تحريراً للجنوب السوري، وإنما كان الوصول لهدنة ترعاها الأردن بموافقة أميركية، خضع لها النظام في حينه، مقابل سلامة الجنوب من الحرب واجتياح السلفية الجهادية، وأصل هذا الواقع كان مبنياً، على فشل مشروع الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي الأسبق في واشنطن، بتهيئة الجنوب لقوات مستقلة عن فصال الثورة، تخضع مباشرةً لتفاهمات سعودية أردنية أميركية، غير أن المشروع فشل مبكراً، وتعرضت العلاقات السعودية- الأردنية في حينها لأزمة.
حين اعتبرت الرياض، أن الأردن نسّق مع النظام لأجل إفشال هذا المشروع، قبل أن يتضح أن واشنطن، هي من قامت بتشجيع الأردن على ذلك، حيث كانت عمّان تخشى من توريطها بجبهة مشتعلة، وليس لديها قدرة لخوض التجربة التركية على حدودها، وبالتالي انتقل فشل مشروع الأمير بندر، إلى تكريس هذه التفاهمات على الأرض، التي رعاها الأميركيون والروس، بين دمشق وعمّان.
واشكالية الأردن هنا، أن موسكو اختارت وقتاً دقيقاً لإسقاط هذه التفاهمات، والحسم الدموي ضد الجنوب، مستثمرة أخطر مرحلة وصل إليها الأردن، في وضعه داخل فك الكمّاشة، في مسار التصفية المتصورة لفريق الرئيس ترامب للقضية الفلسطينية.
وإفهام عمّان، بأن مسألة احتضان الفائض البشري للشعب الفلسطيني، الذي هجرته الحركة الصهيونية، ستتحملها الأردن، سواءً كان وطنا بديلاً للأرض المحتلة، أو شراكة مع جمهورية رام الله التي يُعد لها كوشنير.
ولا نعرف مساحة تطبيق هذه الرؤية الأميركية، غير أن الأردن، الذي حاول أن يواجه الفواتير الصعبة الملزمة له، عاد للتفاهم مع التحالف الأميركي، وجسوره مع محور ابوظبي/الرياض، حول مستقبله السياسي وإنقاذ وضعه الاقتصادي، كل ذلك بالطبع وضع العهد الملكي الأردني، الذي واجه احتجاجاً شعبياً اقتصاديا، أمام قضيته المصيرية، والتي لم تعد تشكل لها تفاهمات درعا، أولوية استراتيجية، أمام قضية الوطن البديل.
وهي لحظة فارقة أدركها الروس فنفذوا ضربتهم، وإن كانت قضية اللاجئين المتدفقين من الجنوب، هي أيضاً، تُمثل تحدٍ كبير لحكومة الأردن، والتي غالباً، ستنتهج سياسة الملك حسين، في دحرجة الأزمات، حتى زحزحتها عن خريطة الأردن الجغرافية، وإن كانت تداخلات المرحلة أضحت اليوم أكثر تعقيداً، من تلك العهود، وأن ما تواجهه عمّان، ربما كان أكبر من قدرات تاريخ نشأتها السياسي.
وبالطبع في الملف الإنساني، يفاقم الغرور الروسي ضريبة الدماء، في ظل عجر متتالي، لما تبقّى من فصائل الثوار في الشمال أو الجنوب، والهياكل السياسية، عن أي قدرة لصناعة ردع نسبي أو توازن، ولا يرغب الروس بترك أي مساحة، لمفاوضات جنيف أو غيرها، فقط الهدف تهيئة المشهد أمام استكمال مسار أستانة، وتطويره لصالح النظام على الأرض.
ويُدرك الروس اليوم، بأن الاتفاق الإقليمي مع طهران وأنقرة، قد ثُبت على الأرض في مناطق الشمال، وأن التفاهمات التركية /الروسية، لا ترغب أنقرة في فقدان زخمها، بناءً على مصالح جيوسياسية تستعد لها تركيا، بعد حسم قوي للانتخابات لصالح الرئيس أردوغان، وتحالف العدالة واليمين القومي المتشدد.
وهو مشروع يتوجه للتنسيق مع الروس، لتعزيز قدرات تركيا في مناطق الأمة التركية، أي القوميات المتصلة بتركيا، في آسيا الوسطى وجمهوريات روسيا الفدرالية، لتكون ظهيراً اقتصاديا، يضاف إلى التحالف الجديد مع موسكو، وبالتالي تستبق أنقرة أي حملات غربية وأميركية، تسعى لتطويق النصر الانتخابي الجديد في أنقرة، ثم تخضع للتعامل المصلحي معها، بناءً على نجاح تركيا، في تأمين مساحة كبيرة، لعالمها الجديد، خارج أرض الروم الغربيين.
إن هذه الخلاصات، تعيد التأكيد ليس لقوى الثورة السورية المنهارة، وحسب، بل لكل حركات التحرر والاستقلال، لشعوب الشرق، التي تعاني من نُظم إرهابية متعددة، بأنّ هذه المرحلة لا يوجد فيها مطلقا، أي قدرات أو توازنات تسمح لها بالصمود، وأن مهمة اليوم تأمين المدنيين وسلم الشعوب، وصناعة فكر استراتيجي، يوقظ مدارات الوعي الفكري، الذي يمهد الطريق أمام فكر الإنقاذ السياسي، حين يأتي زمنه المؤكد.
بقلم : مهنا الحبيل