+ A
A -
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في مذكراته:
رأيتُ ابنتي البارحة قد أخذتْ شيئاً من الفاصولياء، وشيئاً من الأرُز، ووضعتها في طبقٍ كبير من النحاس، ووضعتْ عليها قليلاً من الباذنجان، ورمتْ في الطبق خيارةً وحباتٍ من المشمش.. وذهبتْ به..
فقلتُ لها: لمن هذا يا بنت؟
فقالت: للحارس، أمرتني جدتي أن أدفعه إليه!
فقلتُ لها: ارجعي يا قليلة الذوق، هاتي صينية، وأربعة صحون صغار، وملعقةً وسكيناً وكأس ماء، وضعي كل جنس من الطعام في صحن نظيف.
فوضعتْ الأشياء كما أمرتُها، فقلتُ: الآن اذهبي به إليه
فذهبتْ وهي ساخطة تبربر وتقول كلاماً لا يُفهم..
فقلتُ: ويحكِ، هل خسرتِ شيئاً؟ إن هذا الترتيب أفضل من الطعام، لأن الطعام صدقة بالمال وهذه صدقة بالعاطفة، وذلك يملأ البطن، وهذا يملأ القلب!
تعمدتُ أن أنقل هذه القصة بحرفيتها دون إعادة صياغة، ودون تغيير لبعض المفردات التي قد يجدها البعض غير لائقة، وتعمدي هذا مدفوع بنية إفهام الكثيرين أن حياة الأشخاص الذين يبدون مثاليين ليستْ مثالية، هم أيضاً لهم زوجات، وأولاد، وأقارب وجيران وتحصل معهم تلك المواقف الحياتية التي تحصل لنا جميعاً، وهم وإن كانوا مثاليين فعلاً كما كان الشيخ علي الطنطاوي وكذلك نحسبه، فلأنهم يتصرفون في مناحي حياتهم بأخلاقهم وقيمهم التي ينادون بها، لا لأن كل ما حولهم مثالي حقاً، ويكفيه فخراً رحمه الله أن طبّق عملياً الدرس الذي ما انفك زهاء عشرين عاماً يعلمنا إياه على مائدة الإفطار في برنامجه الرمضاني، وهو أن إنسانية الإنسان إنما تُقاس بتعامله مع من هم أدنى منه رتبة اجتماعياً واقتصادياً، وليس بتعامله مع من هم في نفس منزلته ورتبته، أو من هم أعلى منها، وما أروع أولئك الذين يشبهون في تصرفاتهم كلامهم الجميل الذي يقولونه!
إن شكل الطعام في الأطباق بعد تدخل الشيخ كان كفيلاً أن يُشعر الحارس بإنسانيته، وأنهم يحترمونه ويقدرونه، على عكس ما كان سيشعر به لو قُدم إليه أول مرة! وعليه قِسْ بقية الأمور في الحياة!
إن الأسلوب الذي نعطي به الأشياء للآخرين هو الذي يحدد وقعه في نفوسهم وليس الشيء الذي أعطيناهم إياه!
فعلى سبيل المثال لطالما كان إخبار الآخرين بخطأ قاموا به، واقتراح تصرف صائب مكانه هو عمل نبيل فعلاً، ولكن كي يبقى هذا العمل نبيلاً ويلقى صدى وقبولاً في قلب من قيل له يجب أن يُقدم على طبق من اللطف، إن الآخرين لن يتقبلوا نصائحك لو كانت املاءً، وصواب كلامك لن تكون له فائدة إذا كان دجاً وقاسياً، فإن الذي بُعث بالحق، قال له ربه «ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»! هذا وهو يقول الصواب، ولا يُبلغ كلامه وإنما كلام ربه، فإذا كان هذا الصواب المطلق قد لقي قبولاً عند الناس لأنه قُدِّم إليهم بلين قلب وحلاوة لسان، فمن باب أولى أي كلام بشري آخر لن يلقى صدى ما لم يُقدم للآخرين بذات الشروط!
أن يمر أحدنا بفقير ويتخطاه ولا يعطيه شيئاً أفضل من أن يقذفه بالصدقة وهو جالس على الأرض كمن يقذف الزاني المُحصن بحجر! فحاجة الفقير إلى ترميم قلبه أكثر منها إلى ترميم جيبه! إن البشر ليسوا لحماً ودماً، هذا هو الجزء الظاهر منهم فقط، البشر في الحقيقة مشاعر وكرامات، وكل عطاء لا يراعي مشاعرهم وكراماتهم سواءً كان عطاءً مادياً أو معنوياً، فإنَّ الحرمان خير منه، فإذا أراد الإنسان أن يعطي فليعطِ من قلبه أو ليُمسك!
بقلم : أدهم شرقاوي
رأيتُ ابنتي البارحة قد أخذتْ شيئاً من الفاصولياء، وشيئاً من الأرُز، ووضعتها في طبقٍ كبير من النحاس، ووضعتْ عليها قليلاً من الباذنجان، ورمتْ في الطبق خيارةً وحباتٍ من المشمش.. وذهبتْ به..
فقلتُ لها: لمن هذا يا بنت؟
فقالت: للحارس، أمرتني جدتي أن أدفعه إليه!
فقلتُ لها: ارجعي يا قليلة الذوق، هاتي صينية، وأربعة صحون صغار، وملعقةً وسكيناً وكأس ماء، وضعي كل جنس من الطعام في صحن نظيف.
فوضعتْ الأشياء كما أمرتُها، فقلتُ: الآن اذهبي به إليه
فذهبتْ وهي ساخطة تبربر وتقول كلاماً لا يُفهم..
فقلتُ: ويحكِ، هل خسرتِ شيئاً؟ إن هذا الترتيب أفضل من الطعام، لأن الطعام صدقة بالمال وهذه صدقة بالعاطفة، وذلك يملأ البطن، وهذا يملأ القلب!
تعمدتُ أن أنقل هذه القصة بحرفيتها دون إعادة صياغة، ودون تغيير لبعض المفردات التي قد يجدها البعض غير لائقة، وتعمدي هذا مدفوع بنية إفهام الكثيرين أن حياة الأشخاص الذين يبدون مثاليين ليستْ مثالية، هم أيضاً لهم زوجات، وأولاد، وأقارب وجيران وتحصل معهم تلك المواقف الحياتية التي تحصل لنا جميعاً، وهم وإن كانوا مثاليين فعلاً كما كان الشيخ علي الطنطاوي وكذلك نحسبه، فلأنهم يتصرفون في مناحي حياتهم بأخلاقهم وقيمهم التي ينادون بها، لا لأن كل ما حولهم مثالي حقاً، ويكفيه فخراً رحمه الله أن طبّق عملياً الدرس الذي ما انفك زهاء عشرين عاماً يعلمنا إياه على مائدة الإفطار في برنامجه الرمضاني، وهو أن إنسانية الإنسان إنما تُقاس بتعامله مع من هم أدنى منه رتبة اجتماعياً واقتصادياً، وليس بتعامله مع من هم في نفس منزلته ورتبته، أو من هم أعلى منها، وما أروع أولئك الذين يشبهون في تصرفاتهم كلامهم الجميل الذي يقولونه!
إن شكل الطعام في الأطباق بعد تدخل الشيخ كان كفيلاً أن يُشعر الحارس بإنسانيته، وأنهم يحترمونه ويقدرونه، على عكس ما كان سيشعر به لو قُدم إليه أول مرة! وعليه قِسْ بقية الأمور في الحياة!
إن الأسلوب الذي نعطي به الأشياء للآخرين هو الذي يحدد وقعه في نفوسهم وليس الشيء الذي أعطيناهم إياه!
فعلى سبيل المثال لطالما كان إخبار الآخرين بخطأ قاموا به، واقتراح تصرف صائب مكانه هو عمل نبيل فعلاً، ولكن كي يبقى هذا العمل نبيلاً ويلقى صدى وقبولاً في قلب من قيل له يجب أن يُقدم على طبق من اللطف، إن الآخرين لن يتقبلوا نصائحك لو كانت املاءً، وصواب كلامك لن تكون له فائدة إذا كان دجاً وقاسياً، فإن الذي بُعث بالحق، قال له ربه «ولو كنتَ فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك»! هذا وهو يقول الصواب، ولا يُبلغ كلامه وإنما كلام ربه، فإذا كان هذا الصواب المطلق قد لقي قبولاً عند الناس لأنه قُدِّم إليهم بلين قلب وحلاوة لسان، فمن باب أولى أي كلام بشري آخر لن يلقى صدى ما لم يُقدم للآخرين بذات الشروط!
أن يمر أحدنا بفقير ويتخطاه ولا يعطيه شيئاً أفضل من أن يقذفه بالصدقة وهو جالس على الأرض كمن يقذف الزاني المُحصن بحجر! فحاجة الفقير إلى ترميم قلبه أكثر منها إلى ترميم جيبه! إن البشر ليسوا لحماً ودماً، هذا هو الجزء الظاهر منهم فقط، البشر في الحقيقة مشاعر وكرامات، وكل عطاء لا يراعي مشاعرهم وكراماتهم سواءً كان عطاءً مادياً أو معنوياً، فإنَّ الحرمان خير منه، فإذا أراد الإنسان أن يعطي فليعطِ من قلبه أو ليُمسك!
بقلم : أدهم شرقاوي