+ A
A -

سلسلة من الكوارث مُنِيت بها البشرية ضربت الاقتصاد العالمي منذ 2019، جعلت المرحلة الراهنة مشحونة بالأزمات، ومفتوحة على كل الاحتمالات، تستدعي شبح الفقر والمرض والبطالة، تأتي بالركود تارة وبالتضخم تارة أخرى، سببها غياب الحكمة، وعدم إدراك العواقب الكارثية التي لا تستثني أحدا، فأعطت الجميع شرعية التصدي لها وكبح جماحها.

فالتغير المناخي مستمر في إحكام قبضته الخانقة، وتنتج عنه فيضانات مدمرة في مناطق من العالم، وجفاف مخيف في مناطق أخرى، وما أن أخذ فيروس كورونا ينحسر ويتوارى حتى اندلعت الحرب الروسية- الأوكرانية التي لم تضع أوزارها بعد، وفي خضم معاناة العالم من تداعياتها شنت إسرائيل عدوانا ظالما على قطاع غزة، ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، ومن تداعياته قيام جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن بشن هجمات بالصواريخ والمسيرات على السفن التجارية وناقلات النفط التي تمخر عباب المياه في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن لتنقل ما تحتاجه الشعوب من غذاء ووقود ودواء، وما تحتاجه الدول من معدات لتعزيز الصناعة وزيادة المنتجات.

وكأن المنطقة ليست على فوهة بركان ثائر، فبسبب هجمات الحوثيين، ارتأت الدول الكبرى ضرورة التحرك لحماية مصالحها التجارية، وتكوين تحالف متعدد الجنسيات تحت مسمى «حارس الازدهار» لردع هجمات الحوثيين، وتوافدت بوارجها الحربية تباعا لتبدأ عمليات عسكرية، وكأن المنطقة تنقصها الحروب، وهكذا ارتفعت موجة الإحباطات العاتية عاليا لتطغى على ما تبقى من شعاع الأمل الباهت.

بحسن نية نتفهم الأسباب التي ساقها الحوثيون وراء استهدافهم السفن المتجهة إلى إسرائيل والمرتبطة بها، بقصد شل حركة التجارة للكيان، ومنع أية بضائع تصل إليه، ومؤازرة فصائل المقاومة الفلسطينية، فكلنا نؤازر المقاومة، ومع أية وسيلة فاعلة لردع العدوان الآثم من الأشرار على الأبرياء في غزة، لكننا لسنا مع زيادة الطين بلة.

فالسؤال هنا: كيف غاب عن الحوثيين أن الرياح سوف تأتي بما لا تشتهي السفن؟ هل من المعقول أنهم جهلوا أن الآثار السلبية التي تطول الوطن العربي ستكون أكثر ثقلا من التي تطول إسرائيل؟

إن الخسائر التي لحقت بالاقتصاد العربي جراء هجمات الحوثيين أكثر فداحة من تلك التي لحقت بالاقتصاد الإسرائيلي، فبحسب شركة «فليك سبورت» أن من بين السفن يوجد أكثر من 500 سفينة حاويات كانت تبحر في العادة عبر البحر الأحمر من وإلى قناة السويس، حوالي 350 منها متجهة من وإلى الدول العربية، تحمل كل شيء بداية من الملابس والأجهزة إلى قطع غيار السيارات، اضطرت لتغيير مسار رحلاتها حول رأس الرجاء الصالح، لتضيف أسبوعين على زمن الرحلة، وتحرم مصر من 40 % من دخل قناة السويس أهم مصدر من مصادر النقد الأجنبي، ومن هذه السفن ما يتبع شركات عملاقة مثل بريتش بتروليوم للنفط والغاز البريطانية، وميرسك الهولندية، وهاباك لويد الألمانية وسي إم إي سي جي إم الفرنسية، وشركة البحر المتوسط للشحن الإيطالية السويسرية، وكأن قناة السويس على موعد مع الأزمات التي يتسبب فيها الغير، فما يحدث لها الآن يعيد إلى الذاكرة أزمتها في مارس عام 2021 عندما علقت فيها السفينة العملاقة «إيفر غرين» وعرقلت حركة المرور بها كأحد أكثر الممرات المائية ازدحاما في العالم، وأقصر طريق للشحن بين أوروبا وآسيا.

لسنا بصدد الحديث عن مصر فقط، فالخسارة لم تطل مصر وحدها بل تمتد إلى كل الدول بما فيها دولنا الخليجية، لأن هجر السفن من مسار البحر الأحمر إلى طريق رأس الرجاء الصالح رفع كلفة الشحن والتأمين والخدمات اللوجستية البحرية بنسب تصل إلى 35 %، وتتوقع مجلة الإيكونيميست ارتفاع الأسعار عالميا خاصة في أوروبا وأميركا بنسبة تتراوح بين 25 % 35 % إذا توقف الشحن عبر قناة السويس لشهرين قادمين، لأنها توفر بين 8 إلى 11 يوما أمام السفن المارة من الشرق الأقصى إلى أوروبا، بالمقارنة بما تستغرقه إذا ما أخذت طريق رأس الرجاء الصالح، كما أن 40 % من بضائع العالم من حيث الحجم والوزن تمر منها، وهو رقم قياسي إذا ما عرفنا أن 90 % من بضائع العالم تنقل بالملاحة البحرية.

والحديث عن قناة السويس يأخذنا إلى الحديث عن قناة بنما لأن بينهما علاقة ترابطية، فقناة بنما توفر خمسة أيام من وقت رحلة السفن بين نيويورك وشنغهاي، وتتعامل مع 5 % من التجارة البحرية العالمية، وهي مفيدة بشكل خاص في تسهيل نقل الوقود والحبوب الأميركية المتجهة إلى آسيا، علاوة على ذلك تمثل أكبر مصدر للدخل للاقتصاد البنمي، ولكنها تواجه تحديات كبيرة تهدد عملياتها منذ أكتوبر الماضي، إذ انخفض منسوب المياه فيها إلى أدنى مستوى منذ عام 1950 بسبب ظاهرة النينيو المناخية، ونتيجة لذلك انخفضت سعة الشحن وزادت رسوم المرور، ما دفع كبريات شركات الشحن الدولية لإعادة توجيه رحلاتها إلى قناة السويس، وفي مقدمتها مجموعة Hapag-Lloyd الألمانية، إحدى أكبر مالكي سفن الحاويات في العالم التي أعلنت عن نقل 42 من سفنها من قناة بنما إلى قناة السويس، ولكن كما قلنا في البداية تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، لقد بدأت هجمات الحوثيين على الملاحة البحرية في البحر الأحمر وباب المندب لتغير السفن مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح.

بعد هذا الاستعراض ننتظر أن تتغلب الحكمة اليمنية، وتتوقف الهجمات الحوثية، لأن اليمن يتحمل نصيبا وافرا من دفع الثمن.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات

copy short url   نسخ
05/02/2024
135