دافيد ستراير وجيسون واطسون من جامعتي يوتاه وكولورادو دنفر الأميركيتين أستاذان متخصصان في دراسات جودة الإدراك المعرفي والقدرات، أكدا في نتائج بحوث لهما أن 2 في المائة فقط من البشر يمكنهم أداء مهام متعددة في نفس الوقت، وبنفس مستويات النجاح، وتنطبق هذه النتيجة على الحكومات والدول التي تنشغل بملفاتها الداخلية من أجل التحديث والتنمية، وتنشغل في الوقت ذاته بملفات خارجية، كشريك أو وسيط موثوق به لحل معضلات دولية على درجة من التعقيد عالية، وبكل موضوعية - تعتبر قطر في صدارة نسبة الـ 2 % التي تنجح في كل ما تقدم على حله من قضايا دولية شائكة، حتى لو تراكمت أو تزاحمت في آن واحد على نحو ما هو حاصل، وما يتبين في سياق هذه السطور، فقطر أصبحت معروفة ببلد المهام الصعبة سياسيا ودبلوماسيا ورياضيا إلى آخره.
ملف داخلي عربي قاري تم إنجازه بتنظيم فريد في التميز أعني بطولة كأس أمم آسيا لكرة القدم في نسختها الثامنة عشرة 2023، وبهذه المناسبة مثلما نهنئ أنفسنا بالفوز بالبطولة للمرة الثانية على التوالي بعد الفوز ببطولة النسخة السابعة عشرة، نهنئ أيضا جميع المنتخبات التي شاركت في هذه النسخة، حتى تلك التي خسرت مباريات سعت إلى الفوز بها، ذلك لأن الخسارة في أي مسعى من مساعي الحياة تبعث على الإحباط وتجلب اليأس، ما عدا الخسارة في مباريات كرة القدم، فإنها عادة ما تكون دافعا وحافزا لمزيد من الجد والاجتهاد، والتركيز في الأداء، والتعلم من الأخطاء، وبذل المزيد من أجل النهوض والتعويض، ولا يوجد منتخب كتب له الفوز بكل البطولات، ولا منتخب كتبت عليه الخسارة في كل المباريات، وهذه هي حال كرة القدم، يوم لك ويوم عليك، وقد أتاحت اللجنة المنظمة لمشجعي المنتخبات من كل الجنسيات الفرصة والاستحقاق للتعبير عن ابتهاجهم وسعادتهم والاحتفال بفوز منتخباتهم في أي وقت من ليل أو نهار، حتى وصل الأمر إلى اتخاذ قرار بإلغاء تخصيص ساحات للمشجعين، ليتاح لهم التواجد حيث شاؤوا، فكان سوق واقف المكان المحبب لهم، والذي تحول إلى منتدى رياضي بهيج، أحس فيه الكل بأنه داخل بيته.
ونهنئ كذلك الاتحاد الآسيوي لكرة القدم على تميز هذه النسخة التي تضيف إلى رصيده من النجاح الكثير والكثير، والتهنئة واصلة إلى اللجنة المنظمة والاتحاد القطري لكرة القدم، فقد حافظتم على اسم قطر وعلامتها العالية، ومن صميم الفؤاد نقدم الشكر لنجوم هذا العرس الرياضي المشرّف من اللاعبين والمشجعين الذين لم يخيبوا الآمال فيهم.
قطر كعاصمة للرياضة العالمية تعتبر فاتحة خير للعرب، ففي رحابها وعلى أرضها سطرت المملكة المغربية الشقيقة تاريخها الرياضي في مونديال 2022، بصعود منتخبها إلى المربع الذهبي لأول مرة في تاريخ مشاركاته في كأس العالم، وفي رحابها وعلى أرضها كتب الأردن الشقيق تاريخه الرياضي، بصعود منتخبه إلى المباراة النهائية في بطولة أمم آسيا لأول مرة في تاريخه، فهذه المحطات تظل ذكريات رائعة محفورة في عقول وأذهان البلدين الشقيقين والعرب جميعا.
وبينما كانت الاستعدادات تجرى على قدم وساق لتنظيم هذه البطولة القارية، كانت فعاليات المعرض الدولي للبستنة إكسبو قطر المقام لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط تمضي قدما بنجاح منذ الثاني من أكتوبر الماضي ومستمرة على هذا النحو من الزخم والوهج والتألق وورش العمل والدراسات حتى الثامن والعشرين من الشهر القادم بحثا عن حلول لمشاكل التصحر والتغير المناخي الذي يهدد البشرية، وبمشاركة 80 دولة ومنظمة، وفود تأتي وأخرى تغادر بسهولة وأريحية، وزائرون لفعاليات المعرض من مواطنين ومقيمين وضيوف يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين يقضون أوقاتا تمتزج فيها المتعة والبهجة بالفائدة.
وفي غمرة الانشغال بالتوصل إلى حلول لمشاكل التصحر الذي يهدد الكوكب كانت ولا تزال جهود مضنية وحثيثة تبذل من قبل حضرة صاحب السمو الأمير المفدى حفظه الله ورعاه، ومعالي رئيس مجلس الوزراء وفريقه الدبلوماسي من أجل تثبيت هدنة حقنت الكثير من الدماء الفلسطينية الغالية وكبحت جماح العدوان الغاشم على أهل غزة الأبرياء لأيام، ولا تزال الجهود قائمة تبذل لتقريب وجهات النظر بين حماس وإسرائيل، دونما فرض أية ضغوط أو آراء بعينها على قادة حماس الموجودين معززين مكرمين في ضيافة قطر، وإنما مؤازرتهم والشد على أيديهم والوقوف بجانبهم لأنه جانب الحق، وتسيير جسر جوي إلى مطار العريش لنقل كل أنواع مقومات الحياة لأهل غزة، والتواصل دون انقطاع مع عواصم وقادة الدول الفاعلة في العالم كأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، للوقف الدائم لهذا العدوان الغاشم.
لا شك في أن هذه الجهود سوف تكلل بالنجاح وينتهي العدوان وتنكشف الغمة عن أهل القطاع، فقد نجحت قطر من قبل في حل قضايا محكمة التعقيد، وما دورها في الوساطة بين أميركا وإيران ببعيد، فكل من الدولتين أميركا وإيران معروف عنهما التشبث بالآراء والتمسك بالمواقف التي يصعب زحزحتهما عنها، ولكن الدبلوماسية القطرية النزيهة والمبدعة استطاعت أن تفعل ذلك، قربت بينهما، وتم إطلاق سراح أميركيين كانوا محتجزين لدى طهران، وفي المقابل الإفراج عن أموال إيرانية كانت مجمدة.
قطر فعلا بلد المهام الصعبة والقدرة على حل المعضلات ومواجهة التحديات، نذكر تحديها للأبواق التي استكثرت على العرب استضافة كأس العالم، ونذكر تميزها الإعلامي الذي دفعت من أجله ومن أجل الحق الغالي والنفيس باستشهاد بعض مراسلي الجزيرة، وتحدي الشجاعة سعادة لولوة الخاطر الحصار والمخاطر، ودخولها غزة في أتون الحرب المستعرة، ونجاح الدور القطري لتهدئة الأجواء في الكثير من بؤر التوتر حول العالم.
السر وراء كل هذه النجاحات أن المساعي القطرية ترمي دائما إلى تحقيق الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة والعالم بأسره، وقناعة القوى السياسية قاطبة أن قطر طرف أو وسيط أو شريك موثوق به، يتمتع بالأمانة والنزاهة وحب الخير للغير.
بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري - خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات