من أين تبدأ رحلة تنظيم الدولة والمجتمع، في الكيانات الوطنية المعاصرة؟

نُذكّر هنا بأن الرحلة الغربية، تقوم على مفهوم مشترك في البحث عن المصلحة لعضو الجماعة الوطنية، فهل هي حكرٌ على الدولة المدنية الحديثة، أم أي إطار لجغرافيا وطن، أو حتى ولاية، وماذا لو كانت أمة، مترامية الأطراف، أين يُشكّل فيها، مفهوم التعاقد الاجتماعي، بمعناه في تحقيق المصلحة لذوات الأفراد للمجتمع معاً، لا نجد في ذلك أي غضاضة في نصوص التشريع الإسلامي ومقاصده.

والقول إن في الإسلام بلاغ تعبد ديني محض، لا يتعارض مع نظم الدولة ودسترتها، من حيث تحقيق هذه المصلحة، مادامت متفقة مع الوحي، فالعبادة كمقصد لها روحها الأصلية في النظم الدنيوية في الإسلام، كما أن (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) هو أصل قطعي تنظم عليه وسائط الحقوق للشعوب، وهو أرضية صلبة لمفهوم التعاقد الاجتماعي.

ومن هنا نفهم معنى استدعاء روسو ومن قبله للأسرة، في بنية التنظيم الاجتماعي للدولة، فهنا زوجة وأولاد وهناك شعب، وهنا سيد قائد لمنزله، وهناك زعيم ذو سيادة تنفيذية على شعبه، وأول منطلق تصحيحي، هو أن السيد القائد لمنزله، هو ذو سيادة رعوية تربوية، لا تقوم في الأصل على تعاقد بل على بذل وتضحية.

ولذلك هو في الإسلام راعٍ لأسرته، كما أن الزوجة راعية في بيتها، فهي مسؤولية تربوية أخلاقية، وإن تعاقد الناس عليها بناءً على فطرتهم، وليست نظاماً مادياً شرطياً، فهنا خلل أساسي في علم الاجتماع الغربي، ارتد بعد ذلك بصورة عكسية ضد مفاهيم الأسرة وانسجامها.

والمفهوم الرعوي هنا هو منهج أخلاقي يُحفّز الذات على الإحسان، كل وركنه في المنزل، وليس مسلكاً قانونياً صراعياً، فإن اختلت مسؤولية كل من الآباء تجاه بنيهم، والأبناء تجاه آبائهم، أُعيد الأمر إلى منظومة القضاء التي تُرجّح الإحسان وتحفز عليه، ومنه مسؤولية الأبناء بعد عجز بنيهم، عن رعايتهم ونفقتهم، هذا ركن ملغي كلياً في الحياة الغربية وتشريعاتها، حيث يوضع الأب في مسؤولية التكليف التعاقدي، قبل البلوغ حيث يقول روسو: (ثم يعود الأطفال وبنيهم بالتساوي معه بعد البلوغ، ويحلون من الطاعة الواجبة عليهم).

مبدأ مادي صراعي صرف، أسس له روسو وهو يُشرّع لمنظومة قوانين، تُنظم علاقات الصراع بين الدولة والمجتمع وبين المجتمع ذاته، وهو هنا يريد أن يكرس لمفهوم السيادة، هذه السيادة للحر البالغ وكل إنسان يولد حراً، ولكن لا تؤسس حريته على منابذة أبيه، أو إعلان التساوي التعاقدي معه في منزل الأسرة.

إذ أن مفهوم السيادة يحضر في البيان العام للحق السياسي والاقتصادي والثروة المكتسبة، ولا يَلزم منه أن يُربط بفصل الابن عن أبيه أو البنت عن أبويها، وإعلانه فرداً مستقلاً في مواجهتهم، وكون الفرد ينشأ بعد بلوغه ويستقل بآرائه وحتى إدارة شؤونه وعائلته، لا يلزم منه جعل هذا المدار شرطاُ أو تكييفا تعاقديا قانونياً، وكل من انحرف عن الجادة ومسؤولية الفطرة، يُقوّمُ بنظام العدل التشريعي، هذا القانون يفترق في المعرفة الإسلامية، في الأسرة، عن الصراع المادي المصنوع في التشريع القانوني الاجتماعي.

عبر روسو بعد هذه المقدمة في مفهوم السيادة الفردية، إلى الإطار المرجعي للتعاقد، وانتقد مفهوم غروسيوس وهوبز، كونهما نظّما السلطة عبر التبعية لا الحقوق، وحدد في الفصل الثاني لعقده الاجتماعي، مدار النقد كونه يترك مساحة، لإعلان أن الناس ليسوا متساوين، وأن الطبيعة بحسب عقيدة ارسطو السياسية، تضمن في الأصل أن يولد البشر غير متساوين، فمنهم من يكون مؤهلاً للعبودية، ومنهم للسيادة، وهذا تعقبُ مبكّر لروسو مع كون هوبز، وهذا التعقب النقدي يوصله روسو لمبادئ الامبراطور الروماني كليغولا.

يهمنا هنا أن النقطة المفصلية التي يشير لها روسو، وهي سؤال التساوي في الحقوق، عادت عند حشود ضخمة من فلاسفة الغرب، لتطبق نظرية (القطعان) حسب ما أسماه روسو على الشعوب المستعمرة، والذي لم يتطرق لهم روسو مطلقاً هنا، ولكنه وجد أن في أصل الانطلاق الفلسفي اللبرالي، توجد معضلة تمييز أصلية، في رحلة البحث عن أصل المنفعة، في تحقيق نظام التعاقد بين الدولة والمجتمع، فمن باب أولى بروزها في التعامل مع بقية الأمم (الدونية) في تصنيف الغرب الحديث.

ولم أجد لدى روسو انتكاسة يُدان بها، في هذا المضمار، بحيث يقلب احتجاجه عليه، لو كان قد تورط بدعم أي تشريعات أو حروب ضد عالم الجنوب، بحكم دونيتهم، وهذه نقطة تحسب لروسو، وتساعدني في تبرير انتخابه، كنموذج لرحلة الاستغراب في العمران الاجتماعي والتعاقد الدستوري للغرب.