(والله يسمع تحاوركما) تشير أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، أنها كانت في ناحية البيت البعيدة حين جاءت خولة بنت ثعلبة، تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حوار تاريخي مع النبوة.
لوهلة وقفتُ في اعتبارٍ وتأمل عميق، استدعي بخشوع وخضوع، معنى أن يقول الباري عز وجل، (والله يسمع تحاوركما)، ولذلك قالت السيدة عائشة وهي تروي الحادثة، - الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات – فصوت الخلق معروض عنده، مُجلّى بكل بيان، في هذه القدسية التي جعلها الله تأكيداً لمكانة الحوار في التشريع الإسلامي.
والحوار هنا مارسته الصحابية، بكل تفاعل حتى أنها تراجع النبي صلى الله عليه وسلم، مستلهمة باب الحكمة، التي بُعثت بها الشريعة ومقاصدها، فتُكرّر الاستفهام في تفسير التشريع، والنبي صلى الله عليه وسلم لظاهر النهي، وما وقر في مفاهيم العرب في الظهار، يُفسّر بما رجح عنده، ثم يأتي القرآن كما جاء في مناسبات أخرى ليبين الأمر، ويسدد موقف النبوة في نص الوحي ومقصد التشريع، الأساس في كتاب الله وما صح عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى هنا له عدة دلالات، أولها كما قلنا تعظيم، عبادة وسلوك الحوار في الإسلام، والثاني توجيه المسلمين إلى مقصد التشريع، الذي بُعث به الأنبياء عليهم السلام، وكان هديهم لصالح البشرية، وحيث استقر ما نزل من الوحي، أو ما تواتر أو جزم بصحته من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن مساحة الاجتهاد تدور حول دلالة المقصد الأعلى حتى اليوم.
ولذلك توسعت دائرة الاجتهاد في المسلمين، واشترط بعض العلماء أن يكون الحاكم متمكناً من مذاهب العلماء ومن أقوالهم، لأن مسائل الحكم والتشريع والدسترة الحقوقية والاجتماعية في الدولة، تحتاج إلى سعة رأي ونظر، خلافاً للأحكام الفردية.
غير أن ذلك لا يحوّل النظام الاجتماعي في الإسلام عن أصل تشريعه، ولا حكمة تنزيله، التي تباينت منذ الرسالة، مع كل جاهلية تمس حق المرأة أو كرامتها حتى اليوم، وتتباين قطعاً مع أصل الشريعة وفلسفتها في مفهوم الكرامة الآدمية الحرة، وفي تحرير موقع الأسرة، وعلاقة المرأة بالرجل، وبيان الشراكة الوجودي ومستقبله الإنساني، مع عقيدة الحداثة المادوية العدمية، التي تركز اليوم بكل قوتها على إسقاط الإنسان، من داخل كيانيته الوجودية، وخلق معركة صراع لا تنتهي مع الرجل، وإجبار المرأة في العالم، على نزع أنوثتها وتسييل شخصيتها البيولوجية، بحكم أن ذلك شرط للحرية.
ثنائية حداثية مجنونة هي اليوم خطر قائم وداهم، اشد من أثر الجاهلية الاجتماعية، التي نعاني منها في الشرق المسلم، ضد المرأة، والتي تستثمر صورتها اليوم قوى عالمية، ومؤسسات دولية غربية، تضخ كل جهودها في سبيل اسقاط الأسرة في العالم، وبدلاً من الحداثة الأخلاقية وقيم السمو الإنساني، والتشارك البنّاء بين الأسرة البشرية، تَفرِض الحداثة المادوية الرأسمالية الشرسة، عبر قوتها السياسية، شروطاً قهرية وتعاملات استبدادية على عالم الجنوب، لتغيير الفطرة ونقض محضن الطفولة.
ولذلك استذكرتُ في متابعتي لخبر افتتاح مركز المجادِلة، الذي أعلنت عنه صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، كأحد فروع مؤسسة قطر للثقافة والعلوم، موقف اليمين الإسرائيلي والقوى الصهيونية، التي باركت إغلاق فرع جامعة تكساس في قطر، وحسب ما نشر في الصحافة الغربية، فإن القرار اتخذ بسبب علاقة قطر بالقضية الفلسطينية، والتي عرفت بها الدوحة في مسار دعم الطفولة والتعليم، والذي كان مبرراً لاستقالة صاحبة السمو الشيخة موزا بن ناصر من سفراء اليونسكو، لغياب أي دور فاعل للمنظمة، في مواجهة حرب الإبادة ضد أطفال غزة وطلبة مدارسها ضحايا الإبادة، والتي شملت تدمير المؤسسات الإنسانية التي أنشأتها قطر للعلوم في القطاع.
ولكن ما علاقة الأمرين بعنوان المقال، هل الكاتب هنا يخلط الأوراق؟
وأقول كلا..
إن المقصد هنا، هو أن انطلاق هذه المنصة في سبيل رؤية إسلامية أخلاقية عالمية، تستمد من قطعيات الشريعة أصول رؤيتها، ومن مساحة الاجتهاد في مقاصدها رؤى التفعيل لدور المرأة، ولإسنادها أماً وأنثى، وشريكة دفع حضاري أساسي في التنمية في العمل العام.
فالمشروع يخوض هنا حملة بناء مستقلة عن ذات الإرث الذي يهيمن على عالمنا اليوم، وذات الثقافة التي تُبيد غزة، ونحن إذ نراهن على مشروع حضاري مختلف، يقدمه مركز المجادلة، لأجل المرأة الحرة والشريك، الأنثى والسيدة الفاعلة معاً، ذات الحق في الاندماج الاجتماعي والرومانسي مع زوجها، كما رافعت عن ذلك خولة رضي الله عنها، فهي المرأة اليوم الشريكة في البناء لتنمية وطنها، تحت أساس قيمة تأصيلية لا تقلد النسخ الغربية، وتصحح بمنبرها الإسلامي المستقل عن شروط الغرب، إشكالية خطاب الجاهلية الاجتماعي.