يقرر روسو منع الآباء من نقل حالة العبودية على بنيهم، فهذا ليس من حقهم، حتى لو أقروا الظلم على ذواتهم، وهو يُدرج ذلك في مساحة التنازل عن القيمة الأصلية فيه، وهي حريته، ورغم أن روسو يستأنف الحدث عن هذه العبودية بمفهومها المطلق، إلا أنهُ يدرجها في تنظيم القاعدة الفلسفية للحرية السياسية، للفرد في التعاقد الاجتماعي، وروسو يغوص في سؤال العمق التاريخي للعبودية، يناقشها منذ ظاهرتها الأولى في الحروب.

ويطرح هنا تبرير غروسيوس للأسر في الحروب، كونه في الأصل جاء تعويضاً للقتل، قتل المحارب المنتصر للمحارب المهزوم، وبالتالي فهو اشترى حياته بعبوديته، ويعترض روسو بشدة على هذا الاستنباط، ويقول إن أصل الحروب بين دولة ودولة، لا شخص وآخر، فكيف يُستحل أسر أحدهما للآخر؟

وتفنيد روسو لنظرية الاستعباد لغروسيوس، صحيحة ومهمة بالجملة لكن هذا الطرح يرد عليه، تقييم مسؤولية الفرد في الجيش المعتدي على سبيل المثال، في قتل الناس واضطهاد المدنيين، لماذا يُحاسب عليه وهو قرار وتوجيه دولة؟! وعليه فالسؤال يرجع لروسو من جديد، وهو أن هناك مسؤولية فردية على المقاتل، وبالذات في سلوكه الحربي.

فالأسر حين يكون في إطار عدلي أخلاقي، لا إطار استعباد أصلي ولا استعمار كولونيالي، هو ضمان تحييد ذلك الجيش إذ أن إطلاق المقاتلين كل مرة يعني بالضرورة، إعطاء فرصة للتوحش من جديد، بل واستمرار سعار الحروب المهلكة، وهذا يُقدّر بميزان العدل في هذه الأمة أو تلك، حسب بنية المركز الأخلاقي لها.

ويجب القول هنا إن استطراد روسو، في مناقشة شرعيات العبودية في الحروب، مسلك قوي يحتاج إلى التوقف عنده، وقد أجبنا سابقا عن إشكالية الفرق، بين التشريع الإسلامي وبين واقع تاريخ المسلمين، ولكن روسو يحرر هنا مفهوماً مهماً، في هدم نظرية غروسيوس، وهي حق الغالب المنتصر بالاسترقاق.

وهي مسيرة تاريخية ظلت تتفاعل منذ العهود القديمة لأوروبا، حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كمبادئ حقوقية لم يلتفت لها، شرعها روسو وغيره، ولا نفهم هنا تزكية روسو المكررة للإمبراطورية الرومانية، بناء على مبادئ كتبها الأب بوبيليوس، في حين كان تاريخ الرومان مغرقا في الدموية.

وعلق روسو على مصطلح الفتح، وأنه لا معنى له إلا حق القوة، ونقول هنا إن هذا المصطلح يُقدّر بحسب الخيرية التي تبعثها الأمة الجديدة، في سبيل بلاغ دعوتها فأي دعوة نقصد هنا؟

ليس الأمر على إطلاقه في زعم الدعوة الصالحة للمجتمعات، وإنما في مصداقيتها، فروسو ينطلق من صور حروب متوحشة، هذه الحروب ذاتها، قد فَرضت سياجاً على شعوب عديدة، عاشت عبودية ضمنية أو فعلية، أما في الحالة الإسلامية حين نستثني جرائم الرق غير المشروع والمظالم، فإن إقبال تلك الأمم على أخلاقيات الرسالة، من أمور المراجعة في توصيف الحالة.

وهو أيضاً في أصل البلاغ، لم يكن غزو حرب في ذاته، ولكن تأمين رسالة بلاغ لهذه الدعوة، ومفهوم إعطاء الجزية من الدولة القائمة، يعني أنه قبول للبلاغ في أرضها، والفارق الضخم بين فتح المسلمين وفتح الغربيين، باعتبار المصطلح واحداً عند روسو، هو أن هذه الأمم الغازية جاءت لمصالح وغنائم، في حين جاءت الوفود الإسلامية، لتبليغ الرسالة.

هذا التبشير مختلف في تاريخ الغرب، كونه مدعوما بآلة القتل والعسف ابتداء، ثم بالترغيب والترهيب، مع ضرورات فرز حروب المصالح الآثمة في تاريخ المسلمين، التي تهدف إلى تقوية السلطان وموقعه الصراعي داخل الدولة، أو متعة الغنائم، ولم تكن تقصد بلاغ الرسالة وعمران الأرض، بما يصلح أهلها.

في كل الأحوال فإن تشديدات روسو هنا على رفض شرعية القتل، باسم الغالب وحق استرقاق المهزوم، نظرية أخلاقية متقدمة، لكن واقع التاريخ الغربي لم يُطبق هذه النظرية، وفي الحرب التي شنتها إسرائيل بدعم وتغطية كاملة من أميركا الشمالية ومن أوروبا، على قطاع غزة في فلسطين، في أكتوبر 2023، وجدّدت الفلسفة الغربية ذاتها دعم الحرب، دلالة للتناقض بين كل مبادئ يعلنها الغرب، وبين حقيقة منظوره للأمم وللإنسان خارج أمته.

وهو ما يطرح السؤال الكبير: هذه الأمم ذات العقيدة الإبادية في زمن روسو وقبله وبعده، من الأندلس إلى غزة، ما هو واقع العالم لو أن حاضر العالم المسلم لم يتصد لها، ولم يعرقل حركتها، رغم هزائمه الكبرى؟ ما هو المنعطف الإنساني دون مدافعة أمم الإبادة سياسيا وفكرياً؟ هنا يبرز لنا الفارق بين حشد الحروف والكلمات، وواقع الحياة والصراعات، لنعود لذات السؤال ليس كل فتح عبودية، فكل غزو تكشف عنه حقيقته التاريخية.