شاركتُ «الجزيرة»، قبل عامين احتفالها بمرور عشرين عاما على انطلاقتها، بمقال بدأته بسؤال: لماذا الجزيرة..؟
اليوم وهذه القناة المتفردة في كل شيء تحتفل بالذكرى «22» لانطلاقتها، هل هناك ما يمكن إضافته في الإجابة عن هذا السؤال الجوهري؟
قبل الاسترسال في هذه النقطة تحديدا، لابد من الإشارة إلى أن هذا المشروع النهضوي الرائد ما كان ليبصر النور، وما كان لينجح، وما كان ليستمر، لولا وجود رؤية عميقة، لم تصنعه وتجعله مشروعا إعلاميا رائدا فحسب، لكنها مكنته من القيام بدوره على أحسن وجه، بفضل الرؤية الحكيمة لصاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، باني نهضة قطر الحديثة.
أعود للسؤال الذي بدأت به، وقد أجاب عليه صاحب السمو الأمير الوالد، في الكلمة التي شرّف بها احتفال الجزيرة بالذكرى العشرين عندما قال: «دولة قطر قررت منذ عقدين من الزمان تأسيس منبر إعلامي عربي، يتيح لشعوب المنطقة رؤية نفسها ورؤية العالم بعيونها، لا بعيون الآخرين، وينشر الحقيقة بين الناس، ويرفع مستوى الوعي بينهم، على أن يتسم هذا المنبر بالمصداقية والموضوعية وبأدق معايير المهنية الإعلامية المتعارف عليها عالميا».
هذه هي «الجزيرة» في اختصار بليغ.. إنها مرآة الحق، ومنبر الحقيقة التي نتطلع عليها، بعيدا عن كل ما كان سائدا قبلها، حيث الإعلام العربي صورة لأنظمة جامدة مترهلة، تفتقد للمصداقية والموضوعية، ولأدنى معايير العمل الإعلامي المحترف، الذي يحترم عقول الناس، ويعبر عن تطلعاتهم بأمانة.
هذه الرؤية المتقدمة لما يجب أن يكون عليه الإعلام العربي، لم تكن محل ترحيب من جانب الأنظمة الاستبدادية الظلامية، فهذه الأنظمة قامت على الاستهتار بعقول الناس وحرياتهم وكراماتهم، ولم تكن لتقبل بإعلام متنور مختلف، لذلك لم يكن غريبا على الإطلاق أن تتضمن المطالب الـ «13» التي وضعتها دول الحصار بندا يطالب بإغلاق «الجزيرة»، ونسي هؤلاء أن «الجزيرة» صارت فكرة وأن الأفكار لا تموت.. وأصبحت للشعوب «منبر وصوت».
ولطالما أساؤوا لها، وتارة يقللون من أهميتها، ويدّعون عدم مهنيتها، وأنها تحوّر المواد، وكأنهم يتحدثون عن عربية «الدخيل» على الإعلام صاحبة شعار «أن تكذب أكثر».. ويبقى السؤال للمحصورين في دول الحصار:
إذا كانت «الجزيرة» تفبرك الأخبار، وتنشر الأسرار، وتحرّض الشعوب، وتمرّض الدول، الى آخر قائمة التهم من قليلي الفهم.. فلماذا هي الأولى بدون منافس ويتابعها الملايين؟
هل كل هذه الجماهير العالمية لا تميّز بين الغث والسمين، ولا تفرق بين الصادقين والمحرضين؟
أم أن فشلكم هو سبب غضبكم ورفع ضغطكم؟!
لقد قامت «الجزيرة» لتبقى، فهي لم تبدأ كأداة إعلامية من أجل الترويج لقطر، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان لقطر نصيب من انتقاداتها، والذين أرادوا إغلاقها وطالبوا بذلك مازالوا يعتقدون أن هناك إمكانية للحجر على الآراء ووأدها، وأنه مازال في المقدور إخفاء الحقائق والجرائم والانتهاكات، في وقت أضحى فيه كل شخص في العالم عبارة عن صحفي ومصور، يكتب ويلتقط ويبث لوسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يستطيع أحد منعه أو ردعه.
وعلى ضوء القضية التي تشغل العالم بأسره منذ الثاني من أكتوبر الماضي، والمتمثلة في الجريمة المروعة التي تعرض لها الكاتب السعودي جمال خاشقجي، والتي أضاف لها المدعي العام التركي فصولا مفجعة، مساء أمس، عندما أشار إلى أن الجثة تم تقطيعها.. في مشهد لا يمت للبشرية بصلة ولا للأخلاق الإنسانية، كما أنه يتنافى مع التعاليم الإسلامية، في دولة تتشدق بأنها حامية الدين، وهي تمارس أساليب قمعية ووحشية وإرهابية ضد معارضيها..!
فقد لعبت «الجزيرة» دورا رئيسيا في إلقاء الضوء على جميع تداعياتها، وإبقائها حية، لحين تقديم جميع ملابساتها للرأي العام، والتوصل إلى الجناة الحقيقيين، الذين ارتكبوا هذا العمل الفظيع.
ولو أننا مازلنا في مرحلة «ما قبل الجزيرة» ربما لم نكن لنسمع عن هذه الجريمة المروعة إلا بعد أيام من حدوثها، وربما كانت قيدت «ضد مجهول» شأنها شأن الكثير من الجرائم الأخرى، لكن الأزمنة تغيرت ولم يعد في مقدور القتلة مواصلة جرائمهم، ولم يعد بإمكان اللصوص مواصلة سرقاتهم، ثم التفاخر بما ارتكبوه من آثام، صار للمواطن العربي صوت، ومحامون يتولون الدفاع عنه في سبيل الاقتصاص له، وهذا تماما ما يجعلنا نزداد فخرا بهذا المشروع النهضوي التنويري الهائل، وهنا أعود لكلمة صاحب السمو الأمير الوالد في الذكرى العشرين، والتي اختتمها بتوجيه العاملين في هذه المحطة إلى المضي قدما إلى الأمام: «استمروا في رسالتكم النبيلة، شهود حق، ولسان صدق، ولا تسمحوا لمجرم بالتستر على جريمته».
وكأن سموه يقرأ ما سيحدث بعد عامين، عندما طالب بعدم التستر على الجريمة، وهذا ما فعلته «الجزيرة» وهي تتابع تداعيات قضية خاشقجي، ومع ذلك فلم تغفل الرأي الآخر ولم تحجبه، وكانت في كل تطور جديد تحاول التواصل مع ضيوف من السعودية لنقل وجهة نظرها، ومع أنهم كانوا يمتنعون، خوفا أو لضعف حجتهم، كانت «الجزيرة» تلجأ إلى خبراء ومحللين يميلون للموقف السعودي بشكل واضح، من أجل نقل الحقيقة كاملة للرأي العام بطريقة مهنية متوازنة.
حتى في الأزمة الخليجية، وقطر ضحيتها الأساسية، لم تتحول «الجزيرة» منبرا لصالح قطر، واستمرت عبر كل برامجها تحاول استضافة مسؤولين من دول الحصار للتعبير عن وجهة نظر دولهم، لكن هؤلاء كانوا يرفضون المشاركة على الدوام، ما كان يدفع «الجزيرة» إلى استضافة شخصيات من دول أخرى، عرف عنهم دفاعهم عن سياسات هذه الدول، وقد ظهر ذلك جليا في قضية اغتيال جمال خاشقجي، حيث تستضيف «الجزيرة» في كل برنامج يتناول هذه المسألة شخصيات معروفة بولائها للرياض، من أجل ترجمة شعارها الذي قامت عليه: الرأي والرأي الآخر.
كل المنجزات العظيمة بدأت بفكرة، لكن الفكرة تحتاج إلى شجاعة ومثابرة لتحويلها إلى مشروع ناجح، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأعمال، فإنه ينطبق أيضا على كل المشروعات النبيلة الأخرى، ومنها «الجزيرة».
هذه الفكرة الفريدة أوقد شعلتها رجل نبيل، هو صاحب السمو الأمير الوالد، وحمل هذه الشعلة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، فازدادت توهجا وتألقا، وتمكنت من إنارة المزيد من الظلمات لأنظمة استبدادية، اعتقدت أن في مقدورها حجب الحقائق إلى الأبد، وكانت حاضرة بقوة في كثير من مناطق التوتر والظلم، لتكشف الحقائق، وآخرها جريمة اغتيال جمال خاشقجي، والتي عرضت مشاهدها بمهنية منقطعة النظير، مما جعل جميع الأطراف تحت أضواء ساطعة لا تترك لهم فرصة لإخفاء أمر ما أو تبرئة شخص ما.
وهذا يؤكد أيضاً على أن هذه المشروع النهضوي الكبير، بيد أمينة، ومهما تعرضت لضغوط ومطالب وتهديدات، فهي لن تخضع سوى للخالق سبحانه وتعالى.
عندما نتحدث عن صاحب السمو والأمير الوالد، ودورهما في قيام «الجزيرة» واستمرارها وتألقها، لابد من الحديث أيضا بكثير من التقدير والعرفان، عن سعادة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة، الرجل الذي يعمل بصمت، لكن بشكل دؤوب لا يكل ولا يمل من العطاء المتدفق، من أجل أن يبقى هذا المشروع التنويري، مفخرة لكل الناطقين بلغة الضاد، كما لا يفوتني أن أقدر عاليا جهود سعادة الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، الرئيس التنفيذي للمؤسسة القطرية للإعلام، الذي يقود هذا الجهاز الإعلامي الهام، وسط تحديات صعبة، وأمواج متلاطمة، خاصة مع تداعيات الحصار الجائر، وقد أثبت جدارة وحنكة وحكمة، دون التنازل عن الثوابت الأساسية القائمة على احترام حرية التعبير وصونها وحمايتها.
وبطبيعة الحال، فإن الشكر والعرفان أيضا للعاملين في الجزيرة، الذين قدموا التضحيات الكبيرة لإيمانهم المطلق بحرية الكلمة والتعبير، فمنهم من قضى، ومنهم من سُجن، ومنهم من تعرض للتنكيل، وما زادهم ذلك إلا إصرارا وقوة.
ولأنها منبر الحقيقة، ومحطة الرأي والرأي الآخر، كابدت «الجزيرة» الكثير، وقدمت التضحيات بقلوب مؤمنة راضية، فهي أدركت منذ انطلاقتها، أن هذا الطريق مليء بالآلام، ومن المؤسف أن تأتي احتفالاتها هذا العام، وحدث مقتل الصحفي جمال خاشقجي يخيم على الجميع، وهو الذي شاركهم قبل عامين احتفالات مرور عشرين عاما..
الأمر الذي يلقي عليها مسؤولية مضاعفة، لإبقاء هذه القضية حية، إلى أن ينال الجاني الحقيقي ما يستحقه، وإلى أن تدرك أنظمة الظلام والاستبداد، أن القتل والتنكيل وتكميم الأفواه يجب أن تصبح شيئا من الماضي الأسود، وأنها لن تنجح في مواجهة التنوير والوعي والإعلام الهادف، ولن تسكت صوت الحق حتى لو واصلت ممارساتها الوحشية.. و«الداعشية»..!
آخر نقطة..
?«الجزيرة» تنتصر في المعركة المهنية والإنسانية، وتنحاز للحق، وتدحر الباطل وتكشف القاتل..? أموالهم وهاشتاجاتهم لم تثنها، فكانت «شاهد على العصر» تقدم الرأي والرأي الآخر، بلا حدود، تبحث عن الخبر وما وراءه سواء كان «في العمق» أو «تحت المجهر» وتستوعب الجميع باتجاه مباشر و«معاكس».. وتمثل صوت الشعب «فوق السلطة».. لتصل الحقيقة عبر شاشاتها وما زال للقصة بقية .. وما خفي أعظم!
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
اليوم وهذه القناة المتفردة في كل شيء تحتفل بالذكرى «22» لانطلاقتها، هل هناك ما يمكن إضافته في الإجابة عن هذا السؤال الجوهري؟
قبل الاسترسال في هذه النقطة تحديدا، لابد من الإشارة إلى أن هذا المشروع النهضوي الرائد ما كان ليبصر النور، وما كان لينجح، وما كان ليستمر، لولا وجود رؤية عميقة، لم تصنعه وتجعله مشروعا إعلاميا رائدا فحسب، لكنها مكنته من القيام بدوره على أحسن وجه، بفضل الرؤية الحكيمة لصاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، باني نهضة قطر الحديثة.
أعود للسؤال الذي بدأت به، وقد أجاب عليه صاحب السمو الأمير الوالد، في الكلمة التي شرّف بها احتفال الجزيرة بالذكرى العشرين عندما قال: «دولة قطر قررت منذ عقدين من الزمان تأسيس منبر إعلامي عربي، يتيح لشعوب المنطقة رؤية نفسها ورؤية العالم بعيونها، لا بعيون الآخرين، وينشر الحقيقة بين الناس، ويرفع مستوى الوعي بينهم، على أن يتسم هذا المنبر بالمصداقية والموضوعية وبأدق معايير المهنية الإعلامية المتعارف عليها عالميا».
هذه هي «الجزيرة» في اختصار بليغ.. إنها مرآة الحق، ومنبر الحقيقة التي نتطلع عليها، بعيدا عن كل ما كان سائدا قبلها، حيث الإعلام العربي صورة لأنظمة جامدة مترهلة، تفتقد للمصداقية والموضوعية، ولأدنى معايير العمل الإعلامي المحترف، الذي يحترم عقول الناس، ويعبر عن تطلعاتهم بأمانة.
هذه الرؤية المتقدمة لما يجب أن يكون عليه الإعلام العربي، لم تكن محل ترحيب من جانب الأنظمة الاستبدادية الظلامية، فهذه الأنظمة قامت على الاستهتار بعقول الناس وحرياتهم وكراماتهم، ولم تكن لتقبل بإعلام متنور مختلف، لذلك لم يكن غريبا على الإطلاق أن تتضمن المطالب الـ «13» التي وضعتها دول الحصار بندا يطالب بإغلاق «الجزيرة»، ونسي هؤلاء أن «الجزيرة» صارت فكرة وأن الأفكار لا تموت.. وأصبحت للشعوب «منبر وصوت».
ولطالما أساؤوا لها، وتارة يقللون من أهميتها، ويدّعون عدم مهنيتها، وأنها تحوّر المواد، وكأنهم يتحدثون عن عربية «الدخيل» على الإعلام صاحبة شعار «أن تكذب أكثر».. ويبقى السؤال للمحصورين في دول الحصار:
إذا كانت «الجزيرة» تفبرك الأخبار، وتنشر الأسرار، وتحرّض الشعوب، وتمرّض الدول، الى آخر قائمة التهم من قليلي الفهم.. فلماذا هي الأولى بدون منافس ويتابعها الملايين؟
هل كل هذه الجماهير العالمية لا تميّز بين الغث والسمين، ولا تفرق بين الصادقين والمحرضين؟
أم أن فشلكم هو سبب غضبكم ورفع ضغطكم؟!
لقد قامت «الجزيرة» لتبقى، فهي لم تبدأ كأداة إعلامية من أجل الترويج لقطر، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان لقطر نصيب من انتقاداتها، والذين أرادوا إغلاقها وطالبوا بذلك مازالوا يعتقدون أن هناك إمكانية للحجر على الآراء ووأدها، وأنه مازال في المقدور إخفاء الحقائق والجرائم والانتهاكات، في وقت أضحى فيه كل شخص في العالم عبارة عن صحفي ومصور، يكتب ويلتقط ويبث لوسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يستطيع أحد منعه أو ردعه.
وعلى ضوء القضية التي تشغل العالم بأسره منذ الثاني من أكتوبر الماضي، والمتمثلة في الجريمة المروعة التي تعرض لها الكاتب السعودي جمال خاشقجي، والتي أضاف لها المدعي العام التركي فصولا مفجعة، مساء أمس، عندما أشار إلى أن الجثة تم تقطيعها.. في مشهد لا يمت للبشرية بصلة ولا للأخلاق الإنسانية، كما أنه يتنافى مع التعاليم الإسلامية، في دولة تتشدق بأنها حامية الدين، وهي تمارس أساليب قمعية ووحشية وإرهابية ضد معارضيها..!
فقد لعبت «الجزيرة» دورا رئيسيا في إلقاء الضوء على جميع تداعياتها، وإبقائها حية، لحين تقديم جميع ملابساتها للرأي العام، والتوصل إلى الجناة الحقيقيين، الذين ارتكبوا هذا العمل الفظيع.
ولو أننا مازلنا في مرحلة «ما قبل الجزيرة» ربما لم نكن لنسمع عن هذه الجريمة المروعة إلا بعد أيام من حدوثها، وربما كانت قيدت «ضد مجهول» شأنها شأن الكثير من الجرائم الأخرى، لكن الأزمنة تغيرت ولم يعد في مقدور القتلة مواصلة جرائمهم، ولم يعد بإمكان اللصوص مواصلة سرقاتهم، ثم التفاخر بما ارتكبوه من آثام، صار للمواطن العربي صوت، ومحامون يتولون الدفاع عنه في سبيل الاقتصاص له، وهذا تماما ما يجعلنا نزداد فخرا بهذا المشروع النهضوي التنويري الهائل، وهنا أعود لكلمة صاحب السمو الأمير الوالد في الذكرى العشرين، والتي اختتمها بتوجيه العاملين في هذه المحطة إلى المضي قدما إلى الأمام: «استمروا في رسالتكم النبيلة، شهود حق، ولسان صدق، ولا تسمحوا لمجرم بالتستر على جريمته».
وكأن سموه يقرأ ما سيحدث بعد عامين، عندما طالب بعدم التستر على الجريمة، وهذا ما فعلته «الجزيرة» وهي تتابع تداعيات قضية خاشقجي، ومع ذلك فلم تغفل الرأي الآخر ولم تحجبه، وكانت في كل تطور جديد تحاول التواصل مع ضيوف من السعودية لنقل وجهة نظرها، ومع أنهم كانوا يمتنعون، خوفا أو لضعف حجتهم، كانت «الجزيرة» تلجأ إلى خبراء ومحللين يميلون للموقف السعودي بشكل واضح، من أجل نقل الحقيقة كاملة للرأي العام بطريقة مهنية متوازنة.
حتى في الأزمة الخليجية، وقطر ضحيتها الأساسية، لم تتحول «الجزيرة» منبرا لصالح قطر، واستمرت عبر كل برامجها تحاول استضافة مسؤولين من دول الحصار للتعبير عن وجهة نظر دولهم، لكن هؤلاء كانوا يرفضون المشاركة على الدوام، ما كان يدفع «الجزيرة» إلى استضافة شخصيات من دول أخرى، عرف عنهم دفاعهم عن سياسات هذه الدول، وقد ظهر ذلك جليا في قضية اغتيال جمال خاشقجي، حيث تستضيف «الجزيرة» في كل برنامج يتناول هذه المسألة شخصيات معروفة بولائها للرياض، من أجل ترجمة شعارها الذي قامت عليه: الرأي والرأي الآخر.
كل المنجزات العظيمة بدأت بفكرة، لكن الفكرة تحتاج إلى شجاعة ومثابرة لتحويلها إلى مشروع ناجح، وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الأعمال، فإنه ينطبق أيضا على كل المشروعات النبيلة الأخرى، ومنها «الجزيرة».
هذه الفكرة الفريدة أوقد شعلتها رجل نبيل، هو صاحب السمو الأمير الوالد، وحمل هذه الشعلة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، فازدادت توهجا وتألقا، وتمكنت من إنارة المزيد من الظلمات لأنظمة استبدادية، اعتقدت أن في مقدورها حجب الحقائق إلى الأبد، وكانت حاضرة بقوة في كثير من مناطق التوتر والظلم، لتكشف الحقائق، وآخرها جريمة اغتيال جمال خاشقجي، والتي عرضت مشاهدها بمهنية منقطعة النظير، مما جعل جميع الأطراف تحت أضواء ساطعة لا تترك لهم فرصة لإخفاء أمر ما أو تبرئة شخص ما.
وهذا يؤكد أيضاً على أن هذه المشروع النهضوي الكبير، بيد أمينة، ومهما تعرضت لضغوط ومطالب وتهديدات، فهي لن تخضع سوى للخالق سبحانه وتعالى.
عندما نتحدث عن صاحب السمو والأمير الوالد، ودورهما في قيام «الجزيرة» واستمرارها وتألقها، لابد من الحديث أيضا بكثير من التقدير والعرفان، عن سعادة الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة، الرجل الذي يعمل بصمت، لكن بشكل دؤوب لا يكل ولا يمل من العطاء المتدفق، من أجل أن يبقى هذا المشروع التنويري، مفخرة لكل الناطقين بلغة الضاد، كما لا يفوتني أن أقدر عاليا جهود سعادة الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، الرئيس التنفيذي للمؤسسة القطرية للإعلام، الذي يقود هذا الجهاز الإعلامي الهام، وسط تحديات صعبة، وأمواج متلاطمة، خاصة مع تداعيات الحصار الجائر، وقد أثبت جدارة وحنكة وحكمة، دون التنازل عن الثوابت الأساسية القائمة على احترام حرية التعبير وصونها وحمايتها.
وبطبيعة الحال، فإن الشكر والعرفان أيضا للعاملين في الجزيرة، الذين قدموا التضحيات الكبيرة لإيمانهم المطلق بحرية الكلمة والتعبير، فمنهم من قضى، ومنهم من سُجن، ومنهم من تعرض للتنكيل، وما زادهم ذلك إلا إصرارا وقوة.
ولأنها منبر الحقيقة، ومحطة الرأي والرأي الآخر، كابدت «الجزيرة» الكثير، وقدمت التضحيات بقلوب مؤمنة راضية، فهي أدركت منذ انطلاقتها، أن هذا الطريق مليء بالآلام، ومن المؤسف أن تأتي احتفالاتها هذا العام، وحدث مقتل الصحفي جمال خاشقجي يخيم على الجميع، وهو الذي شاركهم قبل عامين احتفالات مرور عشرين عاما..
الأمر الذي يلقي عليها مسؤولية مضاعفة، لإبقاء هذه القضية حية، إلى أن ينال الجاني الحقيقي ما يستحقه، وإلى أن تدرك أنظمة الظلام والاستبداد، أن القتل والتنكيل وتكميم الأفواه يجب أن تصبح شيئا من الماضي الأسود، وأنها لن تنجح في مواجهة التنوير والوعي والإعلام الهادف، ولن تسكت صوت الحق حتى لو واصلت ممارساتها الوحشية.. و«الداعشية»..!
آخر نقطة..
?«الجزيرة» تنتصر في المعركة المهنية والإنسانية، وتنحاز للحق، وتدحر الباطل وتكشف القاتل..? أموالهم وهاشتاجاتهم لم تثنها، فكانت «شاهد على العصر» تقدم الرأي والرأي الآخر، بلا حدود، تبحث عن الخبر وما وراءه سواء كان «في العمق» أو «تحت المجهر» وتستوعب الجميع باتجاه مباشر و«معاكس».. وتمثل صوت الشعب «فوق السلطة».. لتصل الحقيقة عبر شاشاتها وما زال للقصة بقية .. وما خفي أعظم!
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول