منصات الخطابة تكشف جانباً مهماً من شخصية القائد، فمنها تظهر القدرات، وتبرز الصفات أثناء استعراض البيان، سواء كان مكتوبا أو عبر إلقاء عفوي، وتكشف للمتلقي حالة الثقة ودرجة الاطمئنان.
بعض القادة في العالم الثالث مازالوا عالقين في الماضي، ينبشون فيه لإخفاء حالة الارتباك التي أدت بهم إلى الانفصال عن الواقع، وعدم تلمس مشكلاته، وبالتالي الفشل في إيجاد حلول منطقية وضرورية من شأنها أن تدفع بدولهم إلى الحداثة والتطور والإبداع، فجنحوا إلى الاستبداد والبطش، وأغرقوا دولهم في أتون التخلف على كل صعيد.
بالأمس كنّا على موعد جديد مع حضور يفخر به كل مواطن ومقيم.. عربي ومسلم، وكل مناصر للقضايا العادلة.
حضور يليق بالمكانة والمكان ويتناسب مع الفخامة والمقام.. خطاب سامي جديد ومفيد، كما عودنا حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد العادي السابع والأربعين لمجلس الشورى، واستمتعت بهذا الفصل الخطابي الراقي عن الحاضر والمستقبل والمرجو والمأمول، فحمدت الله الذي قيض لنا حاكما عادلا وقائدا متنورا، وطنه شغله الشاغل، وقضايا شعبه همه اليومي، دون أن ينسى أمته التي ينتمي إليها ويبذل في سبيلها الكثير، من أجل المساعدة في نهضتها وفي احتلال المكانة التي تستحقها بين الأمم.
كلنا استمعنا إلى الخطاب السامي، واستمتعنا مع شعور خالجنا عبارة عن زهو واطمئنان، وبأن الأمور تسير كما يريدها قائد مسيرتنا، ونريدها معه، إلى الأفضل على الدوام، ومن يتأمل ما يحدث حولنا سوف يدرك أن قطر الاستثناء، وما كانت لتكون واحة أمن وأمان واستقرار لولا قيادتها الساهرة على تطورها وازدهارها وتمكين شعبها في كل مجال، ومن ذلك تحويلها إلى دولة متقدمة، قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، وتأمين استمرار العيش الكريم لشعبها وللأجيال القادمة.. عبر مراحل متصلة ومترابطة وليس عبر طفرات متباعدة أو حلقات منفصلة.
جاء خطاب صاحب السمو، أمام مجلس الشورى، بعد ساعات من جملة الأوامر والقوانين والقرارات الأميرية التي استهدفت تطوير العمل الحكومي، ليلبي طموحات المواطنين، ويواكب النهضة الشاملة التي يعيشها وطننا في هذه المرحلة الهامة من مسيرته، وقد عكس خطاب سموه بالأمس طبيعة التحولات المنشودة والقائمة على بناء المؤسسات والإدارة العقلانية للموارد، وتكريس المعايير المهنيّة، ومقاييس الإنتاجية، وخدمة الصالح العام، من أجل رفاهية المواطن، وتأهيله للعمل المنتج والمفيد.
لقد كانت التنمية المتكاملة والمتوازنة سبيل قيادتنا إلى إقامة الدولة الحديثة التي تستجيب لمتطلّبات العصر، وتحقق لقطر المكانة الرائدة التي نتطلع إليها جميعا، دون أن يُخل ذلك بقيمنا وانتمائنا وعقيدتنا، واليوم فإننا نفخر جميعا بترجمة هذه المعادلة على أرض الواقع، حيث الحداثة في أبهى صورها جنبا إلى جنب مع مجموعة القيم التي نشأنا عليها، وحيث الحرية جنبا إلى جنب مع الالتزام بالقواعد الأساسية للمنظومتين الدينية والأخلاقية اللتين جُبلنا عليهما، وهذا ما كان ليتأتى لولا وجود قيادة رشيدة واعية حملت مشعل التنوير على هذا النحو، فجاء خطاب صاحب السمو، مكرسا في جانب رئيسي منه، للتأكيد على مجموعة القواعد والأسس الأخلاقية، حتى لا تتحول الرفاهية إلى حالة من الإفساد الاجتماعي القائم على الثقافة الاستهلاكية غير المنتجة والمتذمرة باستمرار، وشعور بالاستحقاق لا يقوم على العمل والكفاءة، داعيا الأهل والمعلمين والقادة إلى تحذير أبنائهم وتلامذتهم وشعوبهم من هذه السلبيات في سبيل بناء مجتمع لا ينزلق في مهاوي اقتصاد الاستهلاك وثقافة الاتكالية واللامبالاة، عبر التأكيد على العمل وأخلاقياته.
كان خطاب القائد الحريص على شعبه، المحب له، والمؤمن بقدراته، وجاء التركيز على قيم العمل وأخلاقياته، ليؤكد مرة أخرى على أن التنمية البشرية لا يمكن أن تتم بصورة صحيحة، إلا عبر الالتزام بأخلاق العمل في الوظيفة، والعطاء للمجتمع، والتواضع وتقدير قيمة العمل، بما في ذلك الذي يقوم به الآخرون، واعتماد الكفاءة والأهلية أساسا للتعيين والترقية، وليس هوية الشخص، أما التقاعس وعدم القيام بالواجب فإنهما - عدا الضرر الذي يلحقانه بالمصلحة العامة - يقودان إلى التذمر والشكوى المستمرين لتبرير القصور والتقصير.
بدأ صاحب السمو خطابه بطمأنة الشعب إلى أوضاعنا الاقتصادية، حيث «تعززت حصانة اقتصاد قطر من الهزات الخارجية وازداد اعتمادنا على ذاتنا، وترسخت الروابط مع حلفائنا أكثر مما كانت، وتطورت علاقاتنا مع معظم دول العالم. والأهم من هذا كله ازداد تمسك القطريين بأخلاقهم التي عرفوا بها، وتعمق وعي شعبنا وإدراكه لحجم منجزات دولته وأهمية السيادة الوطنية واستقلالية قرارنا السياسي التي تحققت هذه المنجزات في ظلها».
نحن هنا أمام رسالتين مهمتين، أو عنوانين رئيسيين: اقتصاد قوي أساسه الاعتماد على الذات، وشعب صار أكثر إدراكا ووعيا وتمسكا بسيادته الوطنية واستقلالية القرار السياسي، الأمر الذي أدى إلى منجزات في غاية الأهمية، وعلى الرغم من انخفاض الناتج المحلي الهيدروكربوني، فقد صاحبه نمو الناتج المحلي من المصادر الأخرى بحوالي 4 % ما يعكس دور التنوع الاقتصادي كمكـون هـام للنمـو، كما ارتفعت الصادرات بنسبة بلغت 18 % ما أدى إلى تحسن ملموس في الموازنة العامة والميزان التجاري والحساب الجاري. واسترجع الجهاز المصرفي في أقل من عشرة أشهر مستوى المؤشرات التي كانت سائدة قبل الحصار وتحسن مستوى بعضها، وبالإضافة إلى ذلك فقد استعاد مصرف قطر المركزي مستوى احتياطاته، وحافظ الريال القطري على قيمته وحرية تداوله، واستمرت الدولة في توفير التمويل اللازم لمشاريع كأس العالم دون التأثير على الخطط العامة للرؤية الوطنية، وزاد عدد المصانع العاملة في الدولة عما كان عليه قبل الحصار بنحو %14 وتمكنت هذه المصانع من تحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الغذائية وبعض المستلزمات الاستهلاكية.
الأمر المهم الآخر تمثل في انخفاض الإنفاق الحكومي للاستهلاك خلال هذا العام بنحو 20 % عن العام السابق، بينما ازداد الإنفاق الأسري بنحو 4 %. ويتوقع أن تؤدي هذه السياسة إلى فائض في الموازنة العامة لهذا العام، وأن يرتفع هذا الفائض في السنوات المقبلة.
وشهد قطاع النفط والغاز سلسلة من عمليات التطوير، بهدف الحفاظ على الثروة التي حبانا الله بها، لنا ولأجيالنا المقبلة، وتنميتها، وفي هذا السياق أشار صاحب السمو إلى الانتهاء من الدراسات المبدئية لتطوير المشروع الضخم لإنتاج الغاز الطبيعي المسال من حقل الشمال.
كما جرى دمج شركة قطر غاز وشركة رأس غاز كي يصبح إنتاج الغاز وتسييله وتسويقه حصرا في شركة واحدة، وكان الهدف من هذا الدمج توحيد الموارد والقدرات المتميزة للشركتين، وخلق مشغل للطاقة فريد من نوعه من حيث الحجم والكفاءة والمركزية، وتخفيض النفقات التشغيلية السنوية حيث يوفر الدمج نحو ملياري ريال قطري سنويا.
النقطة المهمة الأخرى التي يتعين الوقوف عندها تمثلت في التركيز على أن أمن واستقرار دولنا، الخليجية والعربية، لن يتحقق عبر السعي إلى المساس بسيادة الدول أو التدخل في شؤونها الداخلية، بل من خلال احترام القواعد التي تنظم العلاقات بينها، والعمل على حل الخلافات عن طريق الحوار الذي يرعى مصالح الأطراف المعنية كافة، وفي هذا الصدد أكد صاحب السمو على ضرورة الاستفادة من الأزمة الراهنة في تطوير مجلس التعاون الخليجي على أسس سليمة تشمل آليات لحل الخلافات وتضمن عدم تكرارها مستقبلا، محذرا من أن الأزمات تمر لكن إدارتها بشكل سيئ قد تخلف رواسب تدوم زمنا طويلا، ومن المؤسف حقا أن استمرار الأزمة الخليجية كشف عن إخفاق مجلس التعاون الخليجي في تحقيق أهدافه، وتلبية طموحات شعوبنا الخليجية، ما أضعف من قدرته على مواجهة التحديات والمخاطر، وهمش دوره الإقليمي والدولي.
في المواقف العربية، أكد صاحب السمو مرة أخرى على ثوابت قطر الأساسية، وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية، التي تبقى في مقدمة الأولويات، وإن دعا المجتمع الدولي إلى وضع إسرائيل أمام مسؤولياتها لوقف جميع الممارسات غـير المشروعة بحق الشعب الفلسطيني، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، ووقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه شدد على ضرورة وحدة الشعب الفلسطيني وتجاوز الانقسام لمواجهة ما يحاك ضد القضية الفلسطينية.
كما أكد سموه مواقف قطر الثابتة لجهة الحرص على استقرار اليمن ووحدته وسلامة أراضيه، ودعوة جميع الأطراف لوقف الاقتتال واللجوء إلى الحوار لحل هذه الأزمة سياسيا، مؤكداً دعم كافة الجهود الإقليمية والدولية لإنجاح الحل السياسي الذي يخرج سوريا من أزمتها ويلبي تطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة والأمن والاستقرار، ودفع الحل السياسي في ليبيا، ودعم الأشقاء في العراق في جميع خطواتهم وجهودهم الرامية لتحقيق الأمن والاستقرار.
أود أن أعود مرة أخرى إلى ما بدأت به، حيث ركّز صاحب السمو على الإنسان باعتباره موضوع خطط التنمية ومحورها وهدفها، مؤكدا على مواصلة العمل لتعزيز التنمية البشرية من خلال إيجاد نظام رعاية صحية شامل ومتكامل، وتطبيق أنظمة الجودة في التعليم، وبناء قوة عمل كفؤة وملتزمة، كما تهدف إلى تطوير التنمية الاجتماعية من خلال مراعاة العدالة وتوفير الأمن والسلامة لجميع المواطنين والمقيمين والعمل على الإثراء الثقافي والتميز الرياضي.
لقد أكد الخطاب السامي على قيم العمل والعدالة والمساواة، وهي قيم رفيعة أسهمت على الدوام في نهضة الأمم وتقدمها عبر الإحساس بالواجب والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع.
آخر نقطة..
يحق لأبناء هذا الوطن من مواطنين ومقيمين أن يفخروا بمكانتهم بين الدول والشعوب وما وصلوا إليه من مستوى مميز في مختلف المجالات والأصعدة، حتى أصبحت قطر قبلة الأنظار لما تقدمه من عمل سياسي واقتصادي ورياضي لافت، وما تعكسه من مستوى أخلاقي وإنساني بارز، مما جعلها محل ثقة العديد من المنظمات الدولية وينظر لها بكثير من الإعجاب.
وأحسب أن سموه بهذا الخطاب الشامل والمتكامل وضعنا جميعا أمام مسؤولياتنا الوطنية والأخلاقية للحفاظ على هذه الصورة، مع العمل الدؤوب على تطويرها للأفضل، وترجمة الخطط والطموحات على أرض الواقع، لتبقى قطر، كما العهد بها، دولة العلم والعمل والإنجاز، ودولة الثوابت والمبادئ والقيم، تحت راية تميم المجد.
- محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
بعض القادة في العالم الثالث مازالوا عالقين في الماضي، ينبشون فيه لإخفاء حالة الارتباك التي أدت بهم إلى الانفصال عن الواقع، وعدم تلمس مشكلاته، وبالتالي الفشل في إيجاد حلول منطقية وضرورية من شأنها أن تدفع بدولهم إلى الحداثة والتطور والإبداع، فجنحوا إلى الاستبداد والبطش، وأغرقوا دولهم في أتون التخلف على كل صعيد.
بالأمس كنّا على موعد جديد مع حضور يفخر به كل مواطن ومقيم.. عربي ومسلم، وكل مناصر للقضايا العادلة.
حضور يليق بالمكانة والمكان ويتناسب مع الفخامة والمقام.. خطاب سامي جديد ومفيد، كما عودنا حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، في افتتاح دور الانعقاد العادي السابع والأربعين لمجلس الشورى، واستمتعت بهذا الفصل الخطابي الراقي عن الحاضر والمستقبل والمرجو والمأمول، فحمدت الله الذي قيض لنا حاكما عادلا وقائدا متنورا، وطنه شغله الشاغل، وقضايا شعبه همه اليومي، دون أن ينسى أمته التي ينتمي إليها ويبذل في سبيلها الكثير، من أجل المساعدة في نهضتها وفي احتلال المكانة التي تستحقها بين الأمم.
كلنا استمعنا إلى الخطاب السامي، واستمتعنا مع شعور خالجنا عبارة عن زهو واطمئنان، وبأن الأمور تسير كما يريدها قائد مسيرتنا، ونريدها معه، إلى الأفضل على الدوام، ومن يتأمل ما يحدث حولنا سوف يدرك أن قطر الاستثناء، وما كانت لتكون واحة أمن وأمان واستقرار لولا قيادتها الساهرة على تطورها وازدهارها وتمكين شعبها في كل مجال، ومن ذلك تحويلها إلى دولة متقدمة، قادرة على تحقيق التنمية المستدامة، وتأمين استمرار العيش الكريم لشعبها وللأجيال القادمة.. عبر مراحل متصلة ومترابطة وليس عبر طفرات متباعدة أو حلقات منفصلة.
جاء خطاب صاحب السمو، أمام مجلس الشورى، بعد ساعات من جملة الأوامر والقوانين والقرارات الأميرية التي استهدفت تطوير العمل الحكومي، ليلبي طموحات المواطنين، ويواكب النهضة الشاملة التي يعيشها وطننا في هذه المرحلة الهامة من مسيرته، وقد عكس خطاب سموه بالأمس طبيعة التحولات المنشودة والقائمة على بناء المؤسسات والإدارة العقلانية للموارد، وتكريس المعايير المهنيّة، ومقاييس الإنتاجية، وخدمة الصالح العام، من أجل رفاهية المواطن، وتأهيله للعمل المنتج والمفيد.
لقد كانت التنمية المتكاملة والمتوازنة سبيل قيادتنا إلى إقامة الدولة الحديثة التي تستجيب لمتطلّبات العصر، وتحقق لقطر المكانة الرائدة التي نتطلع إليها جميعا، دون أن يُخل ذلك بقيمنا وانتمائنا وعقيدتنا، واليوم فإننا نفخر جميعا بترجمة هذه المعادلة على أرض الواقع، حيث الحداثة في أبهى صورها جنبا إلى جنب مع مجموعة القيم التي نشأنا عليها، وحيث الحرية جنبا إلى جنب مع الالتزام بالقواعد الأساسية للمنظومتين الدينية والأخلاقية اللتين جُبلنا عليهما، وهذا ما كان ليتأتى لولا وجود قيادة رشيدة واعية حملت مشعل التنوير على هذا النحو، فجاء خطاب صاحب السمو، مكرسا في جانب رئيسي منه، للتأكيد على مجموعة القواعد والأسس الأخلاقية، حتى لا تتحول الرفاهية إلى حالة من الإفساد الاجتماعي القائم على الثقافة الاستهلاكية غير المنتجة والمتذمرة باستمرار، وشعور بالاستحقاق لا يقوم على العمل والكفاءة، داعيا الأهل والمعلمين والقادة إلى تحذير أبنائهم وتلامذتهم وشعوبهم من هذه السلبيات في سبيل بناء مجتمع لا ينزلق في مهاوي اقتصاد الاستهلاك وثقافة الاتكالية واللامبالاة، عبر التأكيد على العمل وأخلاقياته.
كان خطاب القائد الحريص على شعبه، المحب له، والمؤمن بقدراته، وجاء التركيز على قيم العمل وأخلاقياته، ليؤكد مرة أخرى على أن التنمية البشرية لا يمكن أن تتم بصورة صحيحة، إلا عبر الالتزام بأخلاق العمل في الوظيفة، والعطاء للمجتمع، والتواضع وتقدير قيمة العمل، بما في ذلك الذي يقوم به الآخرون، واعتماد الكفاءة والأهلية أساسا للتعيين والترقية، وليس هوية الشخص، أما التقاعس وعدم القيام بالواجب فإنهما - عدا الضرر الذي يلحقانه بالمصلحة العامة - يقودان إلى التذمر والشكوى المستمرين لتبرير القصور والتقصير.
بدأ صاحب السمو خطابه بطمأنة الشعب إلى أوضاعنا الاقتصادية، حيث «تعززت حصانة اقتصاد قطر من الهزات الخارجية وازداد اعتمادنا على ذاتنا، وترسخت الروابط مع حلفائنا أكثر مما كانت، وتطورت علاقاتنا مع معظم دول العالم. والأهم من هذا كله ازداد تمسك القطريين بأخلاقهم التي عرفوا بها، وتعمق وعي شعبنا وإدراكه لحجم منجزات دولته وأهمية السيادة الوطنية واستقلالية قرارنا السياسي التي تحققت هذه المنجزات في ظلها».
نحن هنا أمام رسالتين مهمتين، أو عنوانين رئيسيين: اقتصاد قوي أساسه الاعتماد على الذات، وشعب صار أكثر إدراكا ووعيا وتمسكا بسيادته الوطنية واستقلالية القرار السياسي، الأمر الذي أدى إلى منجزات في غاية الأهمية، وعلى الرغم من انخفاض الناتج المحلي الهيدروكربوني، فقد صاحبه نمو الناتج المحلي من المصادر الأخرى بحوالي 4 % ما يعكس دور التنوع الاقتصادي كمكـون هـام للنمـو، كما ارتفعت الصادرات بنسبة بلغت 18 % ما أدى إلى تحسن ملموس في الموازنة العامة والميزان التجاري والحساب الجاري. واسترجع الجهاز المصرفي في أقل من عشرة أشهر مستوى المؤشرات التي كانت سائدة قبل الحصار وتحسن مستوى بعضها، وبالإضافة إلى ذلك فقد استعاد مصرف قطر المركزي مستوى احتياطاته، وحافظ الريال القطري على قيمته وحرية تداوله، واستمرت الدولة في توفير التمويل اللازم لمشاريع كأس العالم دون التأثير على الخطط العامة للرؤية الوطنية، وزاد عدد المصانع العاملة في الدولة عما كان عليه قبل الحصار بنحو %14 وتمكنت هذه المصانع من تحقيق قدر كبير من الاكتفاء الذاتي في بعض المنتجات الغذائية وبعض المستلزمات الاستهلاكية.
الأمر المهم الآخر تمثل في انخفاض الإنفاق الحكومي للاستهلاك خلال هذا العام بنحو 20 % عن العام السابق، بينما ازداد الإنفاق الأسري بنحو 4 %. ويتوقع أن تؤدي هذه السياسة إلى فائض في الموازنة العامة لهذا العام، وأن يرتفع هذا الفائض في السنوات المقبلة.
وشهد قطاع النفط والغاز سلسلة من عمليات التطوير، بهدف الحفاظ على الثروة التي حبانا الله بها، لنا ولأجيالنا المقبلة، وتنميتها، وفي هذا السياق أشار صاحب السمو إلى الانتهاء من الدراسات المبدئية لتطوير المشروع الضخم لإنتاج الغاز الطبيعي المسال من حقل الشمال.
كما جرى دمج شركة قطر غاز وشركة رأس غاز كي يصبح إنتاج الغاز وتسييله وتسويقه حصرا في شركة واحدة، وكان الهدف من هذا الدمج توحيد الموارد والقدرات المتميزة للشركتين، وخلق مشغل للطاقة فريد من نوعه من حيث الحجم والكفاءة والمركزية، وتخفيض النفقات التشغيلية السنوية حيث يوفر الدمج نحو ملياري ريال قطري سنويا.
النقطة المهمة الأخرى التي يتعين الوقوف عندها تمثلت في التركيز على أن أمن واستقرار دولنا، الخليجية والعربية، لن يتحقق عبر السعي إلى المساس بسيادة الدول أو التدخل في شؤونها الداخلية، بل من خلال احترام القواعد التي تنظم العلاقات بينها، والعمل على حل الخلافات عن طريق الحوار الذي يرعى مصالح الأطراف المعنية كافة، وفي هذا الصدد أكد صاحب السمو على ضرورة الاستفادة من الأزمة الراهنة في تطوير مجلس التعاون الخليجي على أسس سليمة تشمل آليات لحل الخلافات وتضمن عدم تكرارها مستقبلا، محذرا من أن الأزمات تمر لكن إدارتها بشكل سيئ قد تخلف رواسب تدوم زمنا طويلا، ومن المؤسف حقا أن استمرار الأزمة الخليجية كشف عن إخفاق مجلس التعاون الخليجي في تحقيق أهدافه، وتلبية طموحات شعوبنا الخليجية، ما أضعف من قدرته على مواجهة التحديات والمخاطر، وهمش دوره الإقليمي والدولي.
في المواقف العربية، أكد صاحب السمو مرة أخرى على ثوابت قطر الأساسية، وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية، التي تبقى في مقدمة الأولويات، وإن دعا المجتمع الدولي إلى وضع إسرائيل أمام مسؤولياتها لوقف جميع الممارسات غـير المشروعة بحق الشعب الفلسطيني، وإنهاء الحصار الجائر على قطاع غزة، ووقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه شدد على ضرورة وحدة الشعب الفلسطيني وتجاوز الانقسام لمواجهة ما يحاك ضد القضية الفلسطينية.
كما أكد سموه مواقف قطر الثابتة لجهة الحرص على استقرار اليمن ووحدته وسلامة أراضيه، ودعوة جميع الأطراف لوقف الاقتتال واللجوء إلى الحوار لحل هذه الأزمة سياسيا، مؤكداً دعم كافة الجهود الإقليمية والدولية لإنجاح الحل السياسي الذي يخرج سوريا من أزمتها ويلبي تطلعات الشعب السوري في الحرية والعدالة والأمن والاستقرار، ودفع الحل السياسي في ليبيا، ودعم الأشقاء في العراق في جميع خطواتهم وجهودهم الرامية لتحقيق الأمن والاستقرار.
أود أن أعود مرة أخرى إلى ما بدأت به، حيث ركّز صاحب السمو على الإنسان باعتباره موضوع خطط التنمية ومحورها وهدفها، مؤكدا على مواصلة العمل لتعزيز التنمية البشرية من خلال إيجاد نظام رعاية صحية شامل ومتكامل، وتطبيق أنظمة الجودة في التعليم، وبناء قوة عمل كفؤة وملتزمة، كما تهدف إلى تطوير التنمية الاجتماعية من خلال مراعاة العدالة وتوفير الأمن والسلامة لجميع المواطنين والمقيمين والعمل على الإثراء الثقافي والتميز الرياضي.
لقد أكد الخطاب السامي على قيم العمل والعدالة والمساواة، وهي قيم رفيعة أسهمت على الدوام في نهضة الأمم وتقدمها عبر الإحساس بالواجب والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع.
آخر نقطة..
يحق لأبناء هذا الوطن من مواطنين ومقيمين أن يفخروا بمكانتهم بين الدول والشعوب وما وصلوا إليه من مستوى مميز في مختلف المجالات والأصعدة، حتى أصبحت قطر قبلة الأنظار لما تقدمه من عمل سياسي واقتصادي ورياضي لافت، وما تعكسه من مستوى أخلاقي وإنساني بارز، مما جعلها محل ثقة العديد من المنظمات الدولية وينظر لها بكثير من الإعجاب.
وأحسب أن سموه بهذا الخطاب الشامل والمتكامل وضعنا جميعا أمام مسؤولياتنا الوطنية والأخلاقية للحفاظ على هذه الصورة، مع العمل الدؤوب على تطويرها للأفضل، وترجمة الخطط والطموحات على أرض الواقع، لتبقى قطر، كما العهد بها، دولة العلم والعمل والإنجاز، ودولة الثوابت والمبادئ والقيم، تحت راية تميم المجد.
- محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول