+ A
A -
وصلت الجدة إلى الدوحة بعد غياب وانقطاع، لعام كامل عن ابنتها وأحفادها الكبار، قادمة من مدينة جبيل البوعينين، إحدى مدن الأحساء الشمالية، في ساحل الخليج العربي للشرق السعودي، حيث لا فواصل مطلقاً في التاريخ الاجتماعي للمنطقة، وأُسر الساحل حاضرة وبادية، متصلة من الكويت شمالاً إلى عُمان جنوباً، وخلال قرون تفرقت بها أمور السياسة، وواقع الدول المتعدد وأطوار الاستعمار عبرت عليها، لكن لم تُقطع الأرحام المتواصلة بينها.
ولم يشهد التاريخ الاجتماعي هذا التحريض اللعين الكريه، الذي فرضته الأزمة الخليجية، فانحطت لغة الناس، بعد إشعال الفتنة في تويتر والإعلام الرسمي والتواصل الاجتماعي، فكيف يسخر الناس من مجتمع هو امتدادهم المتشابه، بل المطابق لهم، خاصة في ساحل الخليج العربي، الذي أيضاً لنجد فيه امتدادات قديمة كونها تابعاً اجتماعياً للساحل، من الزبير إلى مسقط، قبل القومية الإقليمية الحادة التي تصاعدت في الدولة السعودية الثالثة، ثم وصلت لما أدنى من الحضيض، في قرار الفتنة في الخامس من يونيو 2017.
بعد أن جلست الجدة واستكمل الأحفاد وأبناء الأحفاد سلامهم، لثموا الملفع العتيق، ودهن العود وعطر الزمن الأصيل، وتهليلات جدتهم، وترانيم التراث الجميلة، كلها ذكريات جاءت تحن إلى قلب العجوز، كما حنّ البدوي إلى قومه وإلى إبله وشاقه النهار إلى بيت شعره، وكان يهيم ليطعم الحلال، فالبدوي لا يهنأ بطعام قبل أن تهنأ الناقة فيه، ويسرح الحوار عندها، فلا حدود له، ولم تعزله السياسة، حتى أصبح على ذلك اليوم، وقد رُميَ ذودَه بالذخيرة الحية في عودة فتنة الجاهلية.
تحلّقت الذرية حولها، كيف خؤولتنا يا أماه كيف ساحل خليجنا حولهم، كيف فلانة بعد الزواج وفلان بعد العملية الجراحية، وكيف خواطر خؤولتنا يا أماه بعد خالنا الكبير، سكتت العجوز، وكأن الخليج قد سكت، صمتت وكان الأفق قد احتبس، نظرت إليهم فكان الصمت مخيفاً لهم عليها، ارتفع القلق على خاطر العجوز العظيمة، التي حملتهم في قلبها فكانت الجمهورية الاجتماعية، التي لا يُخطئها أهل الخليج، أمّي العودة، وجدتي أو أمي عائشة أو طرفة أو فاطمة أو سبيكة.. أو أو، كان الحرمان منها عصراً لفؤاد الناس.
شخصت الأبصار إليها، خاصة أمهم ابنتها التي لم ينقطع برها بها، فقطعها قرار الفتنة، تحوم حولها تقبل يديها ورأسها:
يمّه شفي خاطرك عسا ما فيه شي؟
لحظة في زمن الأسرة بدأ الدمع يحتبس في مآقي المرأة القوية، امرأة الخليج القوية الرحيمة الراعية لشؤون الأسرة، منذ رحلة الغوص حتى هجرة العامل في طلب الرزق، في بلده أو بقية ساحل الخليج العربي، كانت الأم العودة الشخصية القوية الأولى، والحبيبة للجد الراحل، الذي يُعبّر عن عشقه لها بطريقته التقليدية:
ويمازحهم أنتوا في صوب وأمكم في صوب وين راحت؟ كل ما فقدها في الحوي أو الدار أو المجلس.
لم تقف الدموع في مآقي العين، وبدأت تنهمل تبكي فبدأت ابنتها تبكي لبكاء أم العطايا، فتقدّم الحفيد وهو أستاذ أكاديمي مرموق، أكبر الأحفاد وتمون عليه، ويمون عليها في ممازحته، يمّه ما عليه، لا تضيقين صدرك وجلسي عندنا الحين نشبع منك.
التفتت إليه، وبدأت تمسح الدمع وتوقّف البكاء، تنهدت بزفرة فانتفضت كل أركان المنزل، يا ولدي، أنا ما أبكي على فرقاي عنكم طول ها المدة، وإن كانت تهدم حشاي، لكني أبكي على أهلنا وبلادنا في الخليج، من عمر الدنيا ما سمعنا مثل ما جرى، كيف يُحرم الناس من ذرياتهم، والزوجة من ضناها، والزوج من سكنه، والأرحام من صلتها، تقطع بقرارات الحكومة، شلون يا بوي شلون، يصير كل هذا وتُردد، الله المستعان.. الله المستعان.
لوحة واقعية من عصف الأزمة الفتنة، مشهد من آلاف المشاهد، التي تعصر شعبنا العربي في الخليج، ولا تزال باقية!!
تصوروا رغم كل الفشل الذي غرقت فيه دول القطيعة، ومآلات سياساتها على الخليج العربي، ولاتزال قرارات القطيعة قائمة، ويَحَكم متى ترعون مصالحكم قبل مشاعر الناس وترفعون قطيعتكم، كفّوا آذاكم وبأسكم عن عجائزنا الركّع وأطفالنا الرضّع وإبلنا الرتّع.
بقلم : مهنا الحبيل
ولم يشهد التاريخ الاجتماعي هذا التحريض اللعين الكريه، الذي فرضته الأزمة الخليجية، فانحطت لغة الناس، بعد إشعال الفتنة في تويتر والإعلام الرسمي والتواصل الاجتماعي، فكيف يسخر الناس من مجتمع هو امتدادهم المتشابه، بل المطابق لهم، خاصة في ساحل الخليج العربي، الذي أيضاً لنجد فيه امتدادات قديمة كونها تابعاً اجتماعياً للساحل، من الزبير إلى مسقط، قبل القومية الإقليمية الحادة التي تصاعدت في الدولة السعودية الثالثة، ثم وصلت لما أدنى من الحضيض، في قرار الفتنة في الخامس من يونيو 2017.
بعد أن جلست الجدة واستكمل الأحفاد وأبناء الأحفاد سلامهم، لثموا الملفع العتيق، ودهن العود وعطر الزمن الأصيل، وتهليلات جدتهم، وترانيم التراث الجميلة، كلها ذكريات جاءت تحن إلى قلب العجوز، كما حنّ البدوي إلى قومه وإلى إبله وشاقه النهار إلى بيت شعره، وكان يهيم ليطعم الحلال، فالبدوي لا يهنأ بطعام قبل أن تهنأ الناقة فيه، ويسرح الحوار عندها، فلا حدود له، ولم تعزله السياسة، حتى أصبح على ذلك اليوم، وقد رُميَ ذودَه بالذخيرة الحية في عودة فتنة الجاهلية.
تحلّقت الذرية حولها، كيف خؤولتنا يا أماه كيف ساحل خليجنا حولهم، كيف فلانة بعد الزواج وفلان بعد العملية الجراحية، وكيف خواطر خؤولتنا يا أماه بعد خالنا الكبير، سكتت العجوز، وكأن الخليج قد سكت، صمتت وكان الأفق قد احتبس، نظرت إليهم فكان الصمت مخيفاً لهم عليها، ارتفع القلق على خاطر العجوز العظيمة، التي حملتهم في قلبها فكانت الجمهورية الاجتماعية، التي لا يُخطئها أهل الخليج، أمّي العودة، وجدتي أو أمي عائشة أو طرفة أو فاطمة أو سبيكة.. أو أو، كان الحرمان منها عصراً لفؤاد الناس.
شخصت الأبصار إليها، خاصة أمهم ابنتها التي لم ينقطع برها بها، فقطعها قرار الفتنة، تحوم حولها تقبل يديها ورأسها:
يمّه شفي خاطرك عسا ما فيه شي؟
لحظة في زمن الأسرة بدأ الدمع يحتبس في مآقي المرأة القوية، امرأة الخليج القوية الرحيمة الراعية لشؤون الأسرة، منذ رحلة الغوص حتى هجرة العامل في طلب الرزق، في بلده أو بقية ساحل الخليج العربي، كانت الأم العودة الشخصية القوية الأولى، والحبيبة للجد الراحل، الذي يُعبّر عن عشقه لها بطريقته التقليدية:
ويمازحهم أنتوا في صوب وأمكم في صوب وين راحت؟ كل ما فقدها في الحوي أو الدار أو المجلس.
لم تقف الدموع في مآقي العين، وبدأت تنهمل تبكي فبدأت ابنتها تبكي لبكاء أم العطايا، فتقدّم الحفيد وهو أستاذ أكاديمي مرموق، أكبر الأحفاد وتمون عليه، ويمون عليها في ممازحته، يمّه ما عليه، لا تضيقين صدرك وجلسي عندنا الحين نشبع منك.
التفتت إليه، وبدأت تمسح الدمع وتوقّف البكاء، تنهدت بزفرة فانتفضت كل أركان المنزل، يا ولدي، أنا ما أبكي على فرقاي عنكم طول ها المدة، وإن كانت تهدم حشاي، لكني أبكي على أهلنا وبلادنا في الخليج، من عمر الدنيا ما سمعنا مثل ما جرى، كيف يُحرم الناس من ذرياتهم، والزوجة من ضناها، والزوج من سكنه، والأرحام من صلتها، تقطع بقرارات الحكومة، شلون يا بوي شلون، يصير كل هذا وتُردد، الله المستعان.. الله المستعان.
لوحة واقعية من عصف الأزمة الفتنة، مشهد من آلاف المشاهد، التي تعصر شعبنا العربي في الخليج، ولا تزال باقية!!
تصوروا رغم كل الفشل الذي غرقت فيه دول القطيعة، ومآلات سياساتها على الخليج العربي، ولاتزال قرارات القطيعة قائمة، ويَحَكم متى ترعون مصالحكم قبل مشاعر الناس وترفعون قطيعتكم، كفّوا آذاكم وبأسكم عن عجائزنا الركّع وأطفالنا الرضّع وإبلنا الرتّع.
بقلم : مهنا الحبيل