يسعى روسو في الفصل السابع من العقد الاجتماعي، للخروج من مأزق معقد، لا يزال مستمراً في تاريخ الحقوق الدستورية، فهو هنا يبسط الشرح مجدداً مؤكداً على مصطلح (السيد)، والسيد هنا هو الإرادة العامة، أي مجموع الهيئة السياسية الممثلة لصوت الشعب، والتي لا يعلو عليها أي هيئة ولا حق آخر، فكيف تُحصّل أو تحقق؟
عبر التصويت الاستفتائي أو الانتخابي لممثلي الأمة، في هذا الشعب وتلك الدولة، وهذا كما أسلفنا سابقاً قد لا ينعقد به إجماعاً عينياً كاملاً، يشمل كل فرد في هذا الوطن.
فماذا عن الأفراد الذين لا يقرون مبادئ الهيئة أو قرارتها؟
يحرص روسو هنا على إيجاد مبرر أعلى، للتشريع الملزم لهيئة التمثيل الكبرى وهي المجتمع، ويقول أن هذه الخصوصية تعتمد على قداسة التعاقد الاجتماعي، وأن الإرادة الخاصة (للفرد) رغم أن لها حريتها الشخصية، وكينونتها الذاتية، التي تقوم في الأصل على اعتبار طبيعي (أي في ذات الإنسان وحريته منذ ميلاده) لكن لا يمكن له أن يخرق قانون ومكانة (السيد) ولابد أن يخضع لهذه القوانين، إذ إن فتح الباب يعني، أن هذه السيادة (العامة) تنهار وتتمزق، وهي تمثل حالة فوضى عامة.
إن هذا الاستدلال من روسو هو في ذاته تشريع ينظم حق الفرد، تحت شروط المجتمع، عند اكتمال قوانين الحقوق والتمثيل الشخصية، في الدستور، ففي نهاية الأمر هناك تقديرات مختلفة، بين توجهات الأفراد، وقانون المجتمعات، الأخلاقي والاعتباري، قبل أن يصاغ كمواد دستورية، وهو في هذه الحالة لا يتناقض اسلامياً مع خضوع الأفراد للقانون العام، وخضوع الرئيس أو القائد أو الملك، لمفهوم التعاقد الاجتماعي في كونه رئيساً اختاره (السيد) أي الإرادة العامة، فيمضي في قيادته للدولة والشعب تحت هذه المشارطة حتى لا يستبد برأيه.
غير أن المرجع هنا في الحالة الإسلامية، فيما يتعلق بين حق الفرد المدني، وبين حق المجتمع، هو الضابط الأخلاقي والتشريعي، والذي يرى روسو ضرورة نفاذه قانونياً بغض النظر عن قبول الفرد وقناعته، وهي حالة تختلف عن مفهوم الغالبية والأقلية، فهناك الخضوع سياسي لإرادة الحكم القانونية فترة انتخابها، وهنا اختلاف التقدير بين قناعات العقل الفردي، وبين إرث المجتمع وتاريخ قيمه، أو منظومة عقيدته الجمعية.
ومع التأكيد على روح الحقوق الفردية من حيث الرأي، والمشاركة السياسية ونصيبه من الثروة، وبقية حقوق المواطنة، فهو في القانون العام يجب أن يُراعي هذا الإرث والتاريخ التشريعي، فلا يجوز أن تُلزم الأمم المسلمة أو غير الغربية في منظومتها بالاختراقات الثقافية، التي ترجع لها قناعات بعض المواطنين، وهي ضمن صناعة الأفكار الغربية الحديثة، المناهضة للفطرة أو للقيم الإنسانية الرشيدة.
وفي باب آخر نجد أن وصول قناعات الأفراد، في الغرب إلى تغيير التشريعات الأخلاقية، لم يعبر حقيقة عبر هذه الشروط التي طرحها روسو، بل أُقرت هذه القوانين المخالفة للفطرة مثلاً، وهي خارج محددات سيادة الإرادة العامة، وهي الغالبية الساحقة، فضلا عن أن تداول هذه القوانين وصخب مناقشاتها، يُدار تحت سقف البرلمان (هيئة الشعب)، تحت ضغط مؤثرات غير نزيهة لقوى النفوذ، أكانت رأسمالية أو اجتماعية، وهو ما جرى في قوانين التغييرات الكبرى للكرامة الإنسانية في العالم الحديث، ولم تستمع قاعدة (السيد) على ما يشرح لها الأمور بنزاهة واستقلال.
وهو ما يدعونا أن نسجل بقوة، التحفظ على فوضى استخدام (الحقوق المدنية الفردية) في قضايا الاختلاف الأخلاقي، والتي أضحت المنظمات العالمية ذاتها، تفرضها على شعوب العالم، من خلال نفوذ هذه الجماعات ومصالح القوة الرأسمالية الدولية فيها.
بل إن روسو يواصل في الفصل الثامن بيانه حول الحقوق المدنية والحرية، بأن ضابطها هو السمو العقلي عن النزوة، ويقول نصاً أن (صولة الشهوة هي وحدها العبودية) هذه المقولة من روسو تختصر مساحات كبرى في تعريف الحرية في الفلسفة الإسلامية، وأن الضابط الأخلاقي والمراجعة العقلية، هي من يدعم مفهوم الحرية وليس الخضوع للنزوة وسلطة الشهوة، وهذا بالضبط ما تعيشه المجتمعات الغربية، بتأثير (القوة) المدعومة من المصالح المادية، ويصعد بها إلى منصة (السيد) التشريعي.