+ A
A -
في ديسمبر 1991 انهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، الأمر الذي اعتبره مراقبون نهاية للثنائية القطبية وتتويجاً لأميركا زعيمة للعالم.
هذا الدور سعت إليه الولايات المتحدة بقوة، وبالفعل نجحت في أن تصبح «شرطي العالم»، وبدا واضحا أن أحدا لن ينازعها في هذا المكان والمكانة التي حصلت عليها وانفردت بها.
قبل سنتين بالتمام والكمال فاز دونالد ترامب من الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليكون الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وكان شعار حملته الانتخابية «جعل أميركا عظيمة مجددًا».
وسعى ترامب جاهدا بعد ذلك للتخلي عن الدور الأمني في مقابل صعود أدوار واهتمامات أخرى، وبات الأمر أشبه ما يكون بتخلي شرطي سير عن موقعه في تقاطع مزدحم، فكان لابد من حوادث فظيعة دفع ثمنها أبرياء لم يختاروا أميركا في الأساس لهذه المهمة.
خلال عقود طويلة بذلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الكثير، وخاضت العديد من الحروب من أجل الإمساك بزمام الأمور على الصعيد العالمي، وهي التي كرست المال والتحالفات لإقصاء الاتحاد السوفياتي والاستئثار بالأحادية القطبية، وقد تفاعل العالم مرة أخرى مع هذا التوجه الجديد على اعتبار أن لا حول له ولا قوة في مسألة من يقوم بقيادة العالم، فالمسألة لا تقوم على انتخابات، ولا على توافقات.
اليوم وتحت قيادة ترامب تخلت الولايات المتحدة عن دور الشرطي العالمي وحامي القيم حقوق الإنسان وحرياته وأصبح الاهتمام بالمال والأعمال والمصالح يفوق معيار القيم ويهدد الأمم، وأضحى العالم في نظر التاجر الأكبر والحلّاب الأخطر ترامب «بزنس» وبازارا ضخما يشتري ويبع فيه حسب مصالح بلاده واقتصاده، مما قد يعامل كل مجرم حسب سجله التجاري وليس عمله الإجرامي..!
وصار المبدأ الأساسي «الترامبي» يقوم على «حماية من يدفع»، فانهارت المبادئ والقيم وحماية الإنسان، وبات العالم أكثر توحشاً وعنفاً وأقل خشية من العقاب، بعد أن مرت الكثير من الحوادث دون محاسبة من أنظمة ديكتاتورية وقمعية تستخدم بطشها وطيشها ضد شعوبها.
وسط هذه الفوضى وجدت الدول «القادرة على الدفع» أن في مقدورها تمرير أجنداتها طالما كان في مقدورها أن تسدد الثمن.
وجاءت قمة الرياض (2017) بحضور ما يزيد على أربعين من قادة الدول العربية الإسلامية عنوانا لتحالف أوثق سعت إليه السعودية مع الرئيس الأميركي الحديث العهد بمنصبه آنذاك.
لم تكد تنتهي القمة بشقيها الخليجي – الأميركي، والعربي – الإسلامي - الأميركي حتى بدأت نذر أزمة خليجية، اندلعت فعليا يوم الخامس من يونيو بقطع الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة علاقاتها مع قطر، وتقديم 13 مطلبا تعبر عن الرغبة في إملاء سياساتها ومصادرة القرار القطري المستقل وفرض الوصاية على الدوحة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بعد محاصرتها برا وجوا وبحرا على أمل دفعها للإذعان، وكان ثمن السكوت الأميركي آنذاك صفقات قيمتها مليارات الدولارات.. فصمدت قطر صمود الأبطال وقدمت للعالم دروسا وعبرا في الحكمة والأخلاق وحسن الإدارة وقوة الإرادة والحفاظ على الكرامة والسيادة.
لم تكن قطر المستهدف الوحيد في تلك القمة المشؤومة، وقد اكتشفنا لاحقا أن الهدف الرئيسي هو محاولة إعادة تشكيل المنطقة عبر تغييرات جذرية فيها، ثم لاحقا، تمرير ما أطلق عليها «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، وأن ذلك ربما بدأ فعلا بقرار ترامب اعتبار القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب.
اليوم مع تداعيات الأزمة الناجمة عن اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بالطريقة الوحشية والفظيعة، التي سمعنا تفصيلاتها المروعة، والبيان الأخير الذي أدلى به الرئيس ترامب، يبدو واضحا أن الذين استضافوا القمة وبعض من شاركوا فيها، اعتقدوا أن لديهم ما يستندون إليه لملاحقة الأصوات الإصلاحية، وتغيير الأنظمة وشن الحروب.
ترامب ذهب أبعد من ذلك عندما جاء على ذكر خاشقجي، حيث اكتفى بوصف الجريمة بأنها «مروعة»، وردد الافتراءات التي حاولت بعض الجهات السعودية ترويجها بأنَّ الصحفي الراحل كان «عدواً للدولة» و«إسلاموي»، مستطرداً أنه على الرغم من ذلك لم يؤثر هذا في حكمه على واقعة القتل.
نحن هنا أمام محاولة فجة وبائسة لتغليب المصلحة على القيم، والدولة التي قدمت نفسها طويلا على أنها «قائدة العالم الحر» بدا أنها تحولت إلى تاجر لا يهمه سوى جني الأرباح على حساب الحق والعدالة وحقوق الإنسان، لذلك يمكن أن نفهم الأسباب التي دعت الإعلام وعددا كبيرا من أعضاء مجلس النواب لـ «فتح النار» على تصريحات ترامب، فالمسألة لا تتعلق بالعدالة وحدها، وإنما بصفات وقيم عليا «تُداس» علنا من أجل صفقات، من المؤلم أنها تحظى بالأولوية المطلقة على حساب القيم التي ارتضاها العالم بأسره وليس الولايات المتحدة فقط، وهي المبادئ التي روّجت لها كل الإدارات الأميركية دون استثناء خلال الحرب الباردة وما بعدها والتي قسمت العالم إلى قطبين أو معسكرين.
السيناتور الجمهوري البارز، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر، قال على حسابه في «تويتر» الثلاثاء «ما كنت أظنني سأحيا إلى يوم أرى فيه البيت الأبيض يعمل كشركة علاقات عامة للرياض».
كما انتقد سيناتورات جمهوريون آخرون ما قاله ترامب، وقال السيناتور راند بول إنّ «هذا البيان يضع السعودية أولاً وليس أميركا أولاً»، في إشارة إلى الشعار الذي لا يكفّ ترامب عن ترداده وهو «أميركا أولاً».
الإعلام الأميركي كان رد فعله في هذا السياق أيضا، إذ رأى فريد ريان، الناشر والمدير التنفيذي لـ «واشنطن بوست»، أن «رد ترامب على القتل الوحشي للصحفي جمال خاشقجي هو خيانة للقيم الأميركية الراسخة في احترام حقوق الإنسان وتوقع الثقة والصدق في علاقاتنا الاستراتيجية».
وأضاف موضحاً أن ترامب «يضع العلاقات الشخصية والمصالح التجارية فوق المصالح الأميركية برغبته في مواصلة القيام بالأعمال المعتادة مع الرياض». وتابع ريان قائلاً: «وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) حققت بشكل شامل في مقتل هذا الصحفي البريء وخلصت بثقة عالية إلى أنه كان بتوجيه من أعلى سلطة. وإذا كان هناك سبب للشك في نتائج وكالة المخابرات المركزية، ينبغي على ترامب أن يجعل تلك الأدلة علنية على الفور». وأكد أن ترامب «على حق في القول إن العالم مكان خطير للغاية»، لكنه قال إن «استسلامه لهذه الجريمة التي أمرت بها دولة سيجعل العالم أكثر خطورة».
أما صحيفة نيويورك تايمز فقالت إن موقف ترامب من مقتل خاشقجي ومحتوى البيان الذي أصدره، قد أكد صحة رسومات الكاريكاتير التي رسمها أكثر الناقدين الأميركيين تهكماً، حين صور أن الأهداف الأساسية لأميركا هي اللهث وراء المال وتحقيق مصالحها الخاصة، ومن ثم، فإنَّ فشل الرئيس ترامب في توجيه الانتقاد، ولو بعبارات قليلة، لعملية القتل الشنيعة التي شملت إرسال فرق اغتيالات مسلحة بمنشار عظام لخنق خاشقجي وتقطيع أشلائه، لأنه تجرأ على انتقاد الرياض، لم يصبّ في صالح سلامة الصحفيين ولا الجالية الأميركية في الخارج.
نحن أمام طريقة جديدة في التعاطي السياسي الانتهازي، حيث العلاقات تقوم على المنفعة المتبادلة، وأنَّه لا بد من التضحية بالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية لصالح تحقيق مفهوم يضر المصالح القومية الأميركية وصورتها النمطية، وسمعتها العالمية، كما أنه مفهوم فاسد لا يليق بدولة عظمى في حجم الولايات المتحدة التي لعبت دورا مهما ومؤثرا في تكريس قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتستضيف العديد من المنظمات الدولية التي تسعى لفرض النظام والقانون، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
لم يعد الأمر على هذا النحو، وخلاصة ما سمعناه أن في مقدور أي دولة تملك «بطاقة VISA» وقادرة على تسديد الفواتير ستكون لديها امتيازات دون غيرها، ومنها على سبيل المثال ملاحقة المعارضين والاقتصاص منهم بالطريقة التي تراها، مثل هذه الفوضى هي آخر ما يحتاجه العالم، وهي تعني أن المجتمع الدولي بأسره أمام امتحان مصيري يتعين فيه الانتصار لحقوق الإنسان ولقيم الحرية والعدالة، أما الرضوخ لمبدأ «من يدفع أكثر» فمعناه تحول العالم إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف، وفي ذلك وحشية في غاية القسوة والامتهان لحقوق البشر.
بيان ترامب يُشكل خذلانا للقيم الأميركية في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، وتنصلا من المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة في قضية كهذه، وهو حتى اللحظة طوق نجاة من المسؤولية عن مقتل خاشقجي، وكما قال عضو مجلس النواب آدم شيف، الذي سيترأس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب بدءا من أول يناير المقبل، فإن البيان«يقوض الاحترام لمكتب الرئيس ومصداقية المجتمع الاستخباري وموقف الولايات المتحدة المدافع عن حقوق الإنسان».
آخر نقطة.. ترامب في هذه القضية ظهر «مضغوط» ومترددا ويعاني كثيراً مع اختيار تصريحاته، فلعبت كلماته «على الحبلين».. وتقبل التحليل من الجهتين، بين إدانة ولي العهد السعودي والوقوف مع الكونغرس والإعلام والرأي العام وحقوق الإنسان والحفاظ على سمعته وشعبيته، وبين انقاذ حليفه المتهور والذي يدفع له بدون سقف محدد، ويضمن له مصالح أميركا وإسرائيل في المنطقة، كما قال في تصريحاته، وظهر التوتر في مؤتمر صحفي طرد على إثره مراسل CNN بدون تهور أو طيش أو بطش أو استخدام منشار، قبل أن تعيده المحكمة بقوة القانون !.
ثم ظهر أمس في الحديقة ويجيب على الصحفيين وهو يتحرك يمنة ويسرة بشكل مضطرب، مما يؤكد الحالة النفسية والعصبية التي سببتها له هذه القضية.. كما أن تصريحاته ضبابية وتركت جميع الأبواب مفتوحة، فمازال للكونجرس كلمة في حال اتفقوا عليها سيتملص ترامب من التصريحات القديمة ويحذف (قد) ويؤكد المؤكد.. أما المتهم الأول في هذه الأزمة فهو الآخر غير مرتاح ولم يشعر بالاطمئنان من هذه التصريحات، والتي اكتنفها الغموض والشكوك ولسان حاله يقول:
«لاني مقيّد.. ولا مفكوك»..!
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
هذا الدور سعت إليه الولايات المتحدة بقوة، وبالفعل نجحت في أن تصبح «شرطي العالم»، وبدا واضحا أن أحدا لن ينازعها في هذا المكان والمكانة التي حصلت عليها وانفردت بها.
قبل سنتين بالتمام والكمال فاز دونالد ترامب من الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ليكون الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وكان شعار حملته الانتخابية «جعل أميركا عظيمة مجددًا».
وسعى ترامب جاهدا بعد ذلك للتخلي عن الدور الأمني في مقابل صعود أدوار واهتمامات أخرى، وبات الأمر أشبه ما يكون بتخلي شرطي سير عن موقعه في تقاطع مزدحم، فكان لابد من حوادث فظيعة دفع ثمنها أبرياء لم يختاروا أميركا في الأساس لهذه المهمة.
خلال عقود طويلة بذلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الكثير، وخاضت العديد من الحروب من أجل الإمساك بزمام الأمور على الصعيد العالمي، وهي التي كرست المال والتحالفات لإقصاء الاتحاد السوفياتي والاستئثار بالأحادية القطبية، وقد تفاعل العالم مرة أخرى مع هذا التوجه الجديد على اعتبار أن لا حول له ولا قوة في مسألة من يقوم بقيادة العالم، فالمسألة لا تقوم على انتخابات، ولا على توافقات.
اليوم وتحت قيادة ترامب تخلت الولايات المتحدة عن دور الشرطي العالمي وحامي القيم حقوق الإنسان وحرياته وأصبح الاهتمام بالمال والأعمال والمصالح يفوق معيار القيم ويهدد الأمم، وأضحى العالم في نظر التاجر الأكبر والحلّاب الأخطر ترامب «بزنس» وبازارا ضخما يشتري ويبع فيه حسب مصالح بلاده واقتصاده، مما قد يعامل كل مجرم حسب سجله التجاري وليس عمله الإجرامي..!
وصار المبدأ الأساسي «الترامبي» يقوم على «حماية من يدفع»، فانهارت المبادئ والقيم وحماية الإنسان، وبات العالم أكثر توحشاً وعنفاً وأقل خشية من العقاب، بعد أن مرت الكثير من الحوادث دون محاسبة من أنظمة ديكتاتورية وقمعية تستخدم بطشها وطيشها ضد شعوبها.
وسط هذه الفوضى وجدت الدول «القادرة على الدفع» أن في مقدورها تمرير أجنداتها طالما كان في مقدورها أن تسدد الثمن.
وجاءت قمة الرياض (2017) بحضور ما يزيد على أربعين من قادة الدول العربية الإسلامية عنوانا لتحالف أوثق سعت إليه السعودية مع الرئيس الأميركي الحديث العهد بمنصبه آنذاك.
لم تكد تنتهي القمة بشقيها الخليجي – الأميركي، والعربي – الإسلامي - الأميركي حتى بدأت نذر أزمة خليجية، اندلعت فعليا يوم الخامس من يونيو بقطع الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة علاقاتها مع قطر، وتقديم 13 مطلبا تعبر عن الرغبة في إملاء سياساتها ومصادرة القرار القطري المستقل وفرض الوصاية على الدوحة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بعد محاصرتها برا وجوا وبحرا على أمل دفعها للإذعان، وكان ثمن السكوت الأميركي آنذاك صفقات قيمتها مليارات الدولارات.. فصمدت قطر صمود الأبطال وقدمت للعالم دروسا وعبرا في الحكمة والأخلاق وحسن الإدارة وقوة الإرادة والحفاظ على الكرامة والسيادة.
لم تكن قطر المستهدف الوحيد في تلك القمة المشؤومة، وقد اكتشفنا لاحقا أن الهدف الرئيسي هو محاولة إعادة تشكيل المنطقة عبر تغييرات جذرية فيها، ثم لاحقا، تمرير ما أطلق عليها «صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، وأن ذلك ربما بدأ فعلا بقرار ترامب اعتبار القدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب.
اليوم مع تداعيات الأزمة الناجمة عن اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بالطريقة الوحشية والفظيعة، التي سمعنا تفصيلاتها المروعة، والبيان الأخير الذي أدلى به الرئيس ترامب، يبدو واضحا أن الذين استضافوا القمة وبعض من شاركوا فيها، اعتقدوا أن لديهم ما يستندون إليه لملاحقة الأصوات الإصلاحية، وتغيير الأنظمة وشن الحروب.
ترامب ذهب أبعد من ذلك عندما جاء على ذكر خاشقجي، حيث اكتفى بوصف الجريمة بأنها «مروعة»، وردد الافتراءات التي حاولت بعض الجهات السعودية ترويجها بأنَّ الصحفي الراحل كان «عدواً للدولة» و«إسلاموي»، مستطرداً أنه على الرغم من ذلك لم يؤثر هذا في حكمه على واقعة القتل.
نحن هنا أمام محاولة فجة وبائسة لتغليب المصلحة على القيم، والدولة التي قدمت نفسها طويلا على أنها «قائدة العالم الحر» بدا أنها تحولت إلى تاجر لا يهمه سوى جني الأرباح على حساب الحق والعدالة وحقوق الإنسان، لذلك يمكن أن نفهم الأسباب التي دعت الإعلام وعددا كبيرا من أعضاء مجلس النواب لـ «فتح النار» على تصريحات ترامب، فالمسألة لا تتعلق بالعدالة وحدها، وإنما بصفات وقيم عليا «تُداس» علنا من أجل صفقات، من المؤلم أنها تحظى بالأولوية المطلقة على حساب القيم التي ارتضاها العالم بأسره وليس الولايات المتحدة فقط، وهي المبادئ التي روّجت لها كل الإدارات الأميركية دون استثناء خلال الحرب الباردة وما بعدها والتي قسمت العالم إلى قطبين أو معسكرين.
السيناتور الجمهوري البارز، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر، قال على حسابه في «تويتر» الثلاثاء «ما كنت أظنني سأحيا إلى يوم أرى فيه البيت الأبيض يعمل كشركة علاقات عامة للرياض».
كما انتقد سيناتورات جمهوريون آخرون ما قاله ترامب، وقال السيناتور راند بول إنّ «هذا البيان يضع السعودية أولاً وليس أميركا أولاً»، في إشارة إلى الشعار الذي لا يكفّ ترامب عن ترداده وهو «أميركا أولاً».
الإعلام الأميركي كان رد فعله في هذا السياق أيضا، إذ رأى فريد ريان، الناشر والمدير التنفيذي لـ «واشنطن بوست»، أن «رد ترامب على القتل الوحشي للصحفي جمال خاشقجي هو خيانة للقيم الأميركية الراسخة في احترام حقوق الإنسان وتوقع الثقة والصدق في علاقاتنا الاستراتيجية».
وأضاف موضحاً أن ترامب «يضع العلاقات الشخصية والمصالح التجارية فوق المصالح الأميركية برغبته في مواصلة القيام بالأعمال المعتادة مع الرياض». وتابع ريان قائلاً: «وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) حققت بشكل شامل في مقتل هذا الصحفي البريء وخلصت بثقة عالية إلى أنه كان بتوجيه من أعلى سلطة. وإذا كان هناك سبب للشك في نتائج وكالة المخابرات المركزية، ينبغي على ترامب أن يجعل تلك الأدلة علنية على الفور». وأكد أن ترامب «على حق في القول إن العالم مكان خطير للغاية»، لكنه قال إن «استسلامه لهذه الجريمة التي أمرت بها دولة سيجعل العالم أكثر خطورة».
أما صحيفة نيويورك تايمز فقالت إن موقف ترامب من مقتل خاشقجي ومحتوى البيان الذي أصدره، قد أكد صحة رسومات الكاريكاتير التي رسمها أكثر الناقدين الأميركيين تهكماً، حين صور أن الأهداف الأساسية لأميركا هي اللهث وراء المال وتحقيق مصالحها الخاصة، ومن ثم، فإنَّ فشل الرئيس ترامب في توجيه الانتقاد، ولو بعبارات قليلة، لعملية القتل الشنيعة التي شملت إرسال فرق اغتيالات مسلحة بمنشار عظام لخنق خاشقجي وتقطيع أشلائه، لأنه تجرأ على انتقاد الرياض، لم يصبّ في صالح سلامة الصحفيين ولا الجالية الأميركية في الخارج.
نحن أمام طريقة جديدة في التعاطي السياسي الانتهازي، حيث العلاقات تقوم على المنفعة المتبادلة، وأنَّه لا بد من التضحية بالاعتبارات الأخلاقية والإنسانية لصالح تحقيق مفهوم يضر المصالح القومية الأميركية وصورتها النمطية، وسمعتها العالمية، كما أنه مفهوم فاسد لا يليق بدولة عظمى في حجم الولايات المتحدة التي لعبت دورا مهما ومؤثرا في تكريس قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتستضيف العديد من المنظمات الدولية التي تسعى لفرض النظام والقانون، وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
لم يعد الأمر على هذا النحو، وخلاصة ما سمعناه أن في مقدور أي دولة تملك «بطاقة VISA» وقادرة على تسديد الفواتير ستكون لديها امتيازات دون غيرها، ومنها على سبيل المثال ملاحقة المعارضين والاقتصاص منهم بالطريقة التي تراها، مثل هذه الفوضى هي آخر ما يحتاجه العالم، وهي تعني أن المجتمع الدولي بأسره أمام امتحان مصيري يتعين فيه الانتصار لحقوق الإنسان ولقيم الحرية والعدالة، أما الرضوخ لمبدأ «من يدفع أكثر» فمعناه تحول العالم إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف، وفي ذلك وحشية في غاية القسوة والامتهان لحقوق البشر.
بيان ترامب يُشكل خذلانا للقيم الأميركية في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، وتنصلا من المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة في قضية كهذه، وهو حتى اللحظة طوق نجاة من المسؤولية عن مقتل خاشقجي، وكما قال عضو مجلس النواب آدم شيف، الذي سيترأس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب بدءا من أول يناير المقبل، فإن البيان«يقوض الاحترام لمكتب الرئيس ومصداقية المجتمع الاستخباري وموقف الولايات المتحدة المدافع عن حقوق الإنسان».
آخر نقطة.. ترامب في هذه القضية ظهر «مضغوط» ومترددا ويعاني كثيراً مع اختيار تصريحاته، فلعبت كلماته «على الحبلين».. وتقبل التحليل من الجهتين، بين إدانة ولي العهد السعودي والوقوف مع الكونغرس والإعلام والرأي العام وحقوق الإنسان والحفاظ على سمعته وشعبيته، وبين انقاذ حليفه المتهور والذي يدفع له بدون سقف محدد، ويضمن له مصالح أميركا وإسرائيل في المنطقة، كما قال في تصريحاته، وظهر التوتر في مؤتمر صحفي طرد على إثره مراسل CNN بدون تهور أو طيش أو بطش أو استخدام منشار، قبل أن تعيده المحكمة بقوة القانون !.
ثم ظهر أمس في الحديقة ويجيب على الصحفيين وهو يتحرك يمنة ويسرة بشكل مضطرب، مما يؤكد الحالة النفسية والعصبية التي سببتها له هذه القضية.. كما أن تصريحاته ضبابية وتركت جميع الأبواب مفتوحة، فمازال للكونجرس كلمة في حال اتفقوا عليها سيتملص ترامب من التصريحات القديمة ويحذف (قد) ويؤكد المؤكد.. أما المتهم الأول في هذه الأزمة فهو الآخر غير مرتاح ولم يشعر بالاطمئنان من هذه التصريحات، والتي اكتنفها الغموض والشكوك ولسان حاله يقول:
«لاني مقيّد.. ولا مفكوك»..!
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول