قد يبدو الإعلان عن إنشاء ممر بحري يربط قبرص بغزة من الوهلة الأولى عملا إنسانيا مهما لإدخال المعونات الإنسانية العربية والدولية لهذه المدينة المنكوبة بلغة الأرقام في نظر البعض، ولكن في نظر الآخرين هو لغة وسيناريو جديد لأهداف انتخابية أميركية ومصالح إسرائيلية.
فعلينا كعرب أن نتمعن كثيرا في هذا القرار الأميركي الغربي، وأن نتوقف عنده وننظر إليه بنظرة بعيدة المدى، خاصة وإن هناك معابر ارضية كثيرة يمكن استغلالها لتوصيل المعونات لإخواننا في فلسطين من مصر والأردن وليس من ميناء لارنكا!
فأي استراتيجية تعتمد على تغيير قواعد اللعبة من واقع معلوم، إلى فرضيات جديدة مبنية على صياغات إسرائيلية لهيكلة الوضع في غزة الصمود والكفاح، وجعل دولة الكيان الإسرائيلي في وضع الدفاع عن النفس، هي علامات استفهام كبيرة، فكيف يعجز المجتمع الدولي عن محاسبة هذا الكيان ووقف هذه الإبادة الجماعية والتجويع ومنع المساعدات.
واليوم يخرج لنا الأميركان وحلفاؤهم، برؤية جديدة خبيثة باقتراح بناء ميناء في غزة لإرسال المساعدات عن طريق البحر، هذا الميناء الذي كنا نتمنى وجوده في غزة من سنوات، يأتي اليوم لخدمة الكيان، ويكون مسيطرا على تقديم المساعدات وإشكالها، مع انه يحتاج لأكثر من ثلاثة أشهر حتى يكتمل، وهو ما يعني موت الكثير من المحتاجين للمساعدات خلال هذه الفترة من الزمن، وهل هذه المواد التي ستدخل عبر الموانئ القبرصية آمنة وسليمة؟
ما يحدث في غزة وفلسطين ولبنان جرائم ضد الإنسانية واختراق للنظام والقانون الدولي، ولن يوقف الحرب الا من أشعلها، فأميركا هي الحكم وهي الجلاد، وإسرائيل هي ابنتها المدللة، ولا يستطيع أحد أن يغير قواعد اللعبة إلّا هم، للأسف، فقد انكشف المستور، والمنظمات الدولية والدول الكبرى الأخرى اختفت خلف الكواليس، فمن الواضح مدى عجزها وقدرتها على وقف الحرب، أو اتخاذ خطوة لدعم فلسطين بالأسلحة أو الغذاء أو إيقاف الحرب.
الكرة الأرضية منقسمة، وقانون الغاب صار للأقوياء، هم يحددون كيف تسير الأمور، أو كيف تنجو إسرائيل من كل جرائمها في ابادة شعب يتعرض للمجاعة كل دقيقة، رغم كل المساعدات التي أرسلت لهم والتي تحتاج لموافقات وتصريحات أميركية للدخول أم لا!
فالمساعدات التي ستقدمها أميركا والدول الغربية لغزة بحرا، ليست الا تسترا على جرائم الكيان الصهيوني وهروبا من اجباره على وقف الحرب، فالقضية اكبر من مساعدات ياعرب، لذا فان التخطيط الجديد بعد فشل انزال المساعدات بالباراشوتات والطائرات، ها هو العمل الجديد، مسح شعب غزة والعمل على تهجيره وطرده من أرضه، وما يفعله العدو وداعميه هو حلقة من حلقات المسح الجغرافي والتاريخي والسياسي، وتصوير القضية على انها فقط شعب يحتاج لمساعدات إنسانية!
وعلى الدول العربية والاسلامية أن تدرك جيدا هذا المخطط، فالثمن كبير جدا ودول أخرى وشعوب ستدخل في التقسيم والتهجير، فهذا العنف دليل بان هناك سيناريو، وخيار الدولتين مجرد كلام دبلوماسي استهلاكي، فكيف ترفض إسرائيل كل القرارات، وكيف نصدق الجلاد الأميركي وهي تدعم إسرائيل من الابرة للدبابة.
فالممر البحري مجرد مسكنات لعمل اكبر، والتستر الأميركي الغربي لهذه الابادة، والقبول بالممر البحري لهو مشاركة وصرف الانظار والاعلام عن الابادة والانشغال في الميناء والحكومة الجديدة الفلسطينية.
فهل الممر البحري قبالة شواطئ غزة هو المنقذ لنقل المواد الغذائية والماء والدواء لأهل غزة، لا والف لا، خاصة من دولة كل قيادتها ضالعون في هذا الحصار والدمار والقذف العسكري برا وبحرا وجوا لشعب يدافع عن أراضيه واستقلاله.
فالسيناريو الجديد الأميركي - الإسرائيلي، ليس خطوة مفاجئة، فالإدارة الأميركية الحالية بقيادة بايدن تتعرض لانتقادات داخلية وخارجية بسبب الحرب، مع أن البيت الأبيض وصف الممر البحري بأنه «مهمة طارئة» لتنظيم المساعدات للفلسطينيين في غزة، بل هو اكذوبة جديدة وسخرية وضربة أخرى للنظام العالمي الهش، فالأمر هو بداية لتهجير جديد عبر سفن المساعدات ونقل شعب غزة إلى مناطق اخرى في العالم، وأيضا القضاء على حركة حماس نهائيا، وحرمان حماس من القدرة على إطعام السكان وإدارة القطاع، واستبدال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بمنظمة أخرى ستكون مسؤولة عن توزيع الغذاء من جانب إسرائيل.
ومع ذلك نقول إن القضية الفلسطينية لن تنتهي كما يتصورها الكثيرون، رغم إضعافها المستمر، والبدائل المطروحة كبدائل لمعبر رفح وغيره، لا تجدي نفعا، وعملية نقل شعب وأهل غزة المرابطين والمدافعين عن أرضهم بقوة عبر السفن إلى مناطق أخرى في العالم، أيضا لا تجدي نفعا أيضا بعد فشل تهجيرهم ودخولهم عبر المنافذ البرية، حسب الخطة والسيناريو الغربي لمسح غزة وإدخالها ضمن حدود الدولة المحتلة، ومن ثم قيام منطقة اقتصادية عالمية هناك ومنفذ بحري دولي أصبح من الخيال.. والله من وراء القصد.